بحوث ودراسات

د. عبد الآخر حماد يكتب: شريعة الحب أم شريعة العدل؟

من الشطحات التي نبه أهل العلم على بطلانها وضلالها، ما وجدناه في تراث الصوفية الاتحادية من محاولة التقريب بين شريعة الحق وشرائع أهل الباطل، بدعوى إشاعة الحب بين الناس، وعدم التفريق بينهم، على حد قول شيخهم محي الدين بن عربي:

قد كنتُ قبل اليوم أنكر صاحبي.. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَّ صُـورةٍ.. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ

وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ.. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن

أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ.. ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني

وللأسف الشديد نرى اليوم بعض المحسوبين على الدعوة والفكر الإسلامي يقعون- وإنْ بغير قصد – في مشابهة ابن عربي في بعض ما دعا إليه، بدعوى أننا لا بد أن نقدم الإسلام للناس في صورة حسنة تبرز جوانب الرفق واللين والرحمة في الشريعة الإسلامية. وعليه رأينا بعضهم يدعو لإشاعة الحب بين الناس كافةً، وأنه بما أن الله تعالى هو المحبوب الأعظم لنا، فيجب أن تتسع قلوبنا لمحبة سائر خلقه سبحانه، المحسن منهم والمسيء، مَن وافقناه منهم ومَن خالفناه. وربما استشهد بعضهم بما ترويه أناجيل النصارى عن المسيح عليه السلام في ذلك؛ كمقولة: (الله محبة)، ومقولة: (أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا من أجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم). وأقول وبالله التوفيق:

1- لا شك أن العمل على نشر التراحم والتعاطف بين الناس هو أمر حسن، وهو مما اتفقت عليه شرائع الأنبياء والمرسلين، لكنَّ الدعوةَ إلى اعتماد مبدأ المحبة للناس جميعاً مما لا نجد له سنداً في شريعة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم. فشريعة الإسلام كما جاءت بمحبة أهل الإيمان وموالاتهم، جاءت أيضاً ببغض أهل الكفر المحادين لله ورسوله ناهيةً عن محبتهم، كما قال تعالى: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ…) [المجادلة: 22]. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة: 1].

والله تعالى يحب المتقين، ويحب المحسنين، لكنه لا يحب الكافرين، ولا يحب الظالمين، ولا يحب كلَّ مختال فخور. ونحن مأمورون بأن نحب من أحبه اللهُ تعالى، ونبغض من أبغضه الله، ومحال أن يعلم مسلمٌ موحدٌ أن الله تعالى لا يحب مَن صفته كذا وكذا، ثم يصر بعد ذلك على محبته ومودته.

2- إن الحقيقة التي لا مراء فيها أن دعوة المسيح عليه السلام كانت في مجملها دعوة رحمة ورفق ولين، وقد قال الله تعالى عنه: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً….). [الحديد: 27]. ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها أيضاً أن كثيراً مما يُنسب إليه عليه السلام في هذا المضمار لا نستطيع أن نجزم بصحة نسبته إليه. فنحن لا ندري هل قال المسيح بالفعل: (أحبوا أعداءكم…. إلخ) أم لا؟؛ إذ ليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم –وهما الحجة عندنا- ما يثبت صحة تلك النسبة أو ينفيها. وحتى لو صحت نسبة مثل تلك إليه، فإننا لسنا ملزَمين بالعمل بها، وإنما نحن مأمورون باتباع الشريعة الخاتمة التي نسخت كل ما قبلها من الشرائع، والتي بيَّنا آنفاً أنها جاءت بحبِّ أصناف من الناس وبُغضِ آخرين.

بل نرى والله أعلم أن تكليفنا بأن نحبَّ أعداءنا وأن نبارك لاعنينا، هو من التكليف بما لا يُطاق، لأن ذلك ينافي ما فطر الله الناس عليه من بُغض من يظلمهم ويعتدي عليهم.

هذا مع التنبيه إلى أنه حتى الأمم المنتسبة إلى المسيح عليه السلام، وبخاصة في أوربا وأمريكا هي مِن أشد الأمم ظلماً وعدواناً، وهم أبعد الناس عن تطبيق تلك المقولات التي نُطالَب نحن المسلمين بالتزامها.

3- أما الشريعة التي جاءت بها الرسالة الخاتَمة فهي شريعة الحق والعدل، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ…). [النساء: 58]. وقال: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). [المائدة: 42]. والسِّمة التي أمرنا الله أن نتحلى به مع كل الناس، بحيث يمكن أن نطلق عليها أنها ” القيمة العليا” في المجتمع المسلم هي العدل، وليست الحب؛ فنحن مأمورون بالعدل مع كلِّ الناس: مؤمنِهم وكافرِهم، تقيِهم وعاصيِهم، ظالمِهم ومظلومِهم.

ويكفي أن نتدبر قول الله عز وجل: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ…). [المائدة: 8]. فقد أثبت سبحانه الشنآن، وهو بغضنا لأولئك المعتدين، ولم ينهَ عنه، لكنه نهانا أن يحملنا ذلك الشنَآنُ على ظلمهم وعدم إقامة العدلِ فيهم.

ولك أن تنظر معي إلى هذا الموقف العادل النبيل الذي وقفه عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى خيبر ليخرص ثمارَها -أي يقدر ما ستنتجه أشجارها وزروعها، فيلزمهم بدفع الشطر منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو نص اتفاقهم معه فأرادوا أن يعطوه رشوة لكي لا يزيد عليهم في التقدير فقال لهم: (يا أعداء الله أتطعموني السُّحت، والله لقد جئتكم من عندِ أحبِّ الناس إليَّ، ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم. فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض).

[أخرجه البيهقي من حديث ابن عمر، وصححه ابن حبان].

4- ومما يحسن ذكره هنا أن نبين أنَّ شريعة المسيح عليه السلام، وما جاء فيها من مقولات الرفق واللين والرحمة، يمكن اعتبارها مجردَ حلقة في سلسلة الشرائع الإلهية، وقد سبقتها رسالة موسى عليه السلام، التي كانت رسالة قوة وقهر، ثم حوَّلها الأحبار إلى نوعٍ من القسوة والشدة، وإيثار الدنيا على الآخرة.

فلما جاء عيسى عليه السلام كان لا بد أن تميل شريعته إلى الجهة المقابلة، جهةِ اللين والرحمة والزهد الشديد في هذه الحياة الدنيا، وذلك من أجل ضبط كِفَّتيْ الميزان. فلما بلغت الرسالاتُ الإلهيةُ تمامَها وكمالَها ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت تلك الشريعة الخاتمة هي الشريعة الوسط بين هذه وتلك؛ لأنها الرسالة الناسخة لما قبلها الباقية إلى قيام الساعة.

5- ولقد أحسن ابن القيم رحمه الله حين لخَّص طبيعة الرسالات الثلاث وما تميزت به؛ حيث ذكر أن موسى عليه السلام كان في مظهر الجلال، ولهذا كانت شريعته شريعةَ جلالٍ وقهرٍ، حيث أُمروا بقتل نفوسهم، وحرمت عليهم الشحوم وذوات الظفر وغيرها من الطيبات، وأما عيسى عليه السلام فقد كان في مظهر الجمال، وكانت شريعته شريعةَ فضلٍ وإحسانٍ، لا حرب فيها ولا قتال. وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فكان في مظهر الكمال الجامع للقوة والشدة في الله، وهذا اللين والرأفة والرحمة، (وشريعته أكمل الشرائع فهو نبي الكمال وشريعته شريعة الكمال، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات. ولذلك تأتي شريعته بالشدة في موضعها وباللين في موضعه، وبالعدل فرضاً له وإيجاباً، وبالفضل ندباً إليه واستحباباً، كقوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها). فهذا عدل، (فمن عفي وأصلح فأجره على الله)، فهذا فضل). [مدارج السالكين (2/457-459)].

د. عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights