د. عبد الآخر حماد يكتب: عظة السنين بين الطنطاوي والمنفلوطي
أعقلُ الناس وأكيسُ الناس من اتعظ بمرور السنين، ولم يَزدْهُ تعاقبُ الأيام والسنين إلا قرباً من الله تعالى واستعداداً للقائه؛ كما ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار سأل رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالَ: (يا نبي الله مَنْ أَكْيَسُ الناسِ وأحزمُ الناسِ؟ قالَ: أَكْثرُهُم ذكراً للمَوتِ، وأشدُّهم استعداداً للموتِ قبلَ نُزول الموتِ، أولئِكَ هم الأَكْياسُ ذهبوا بشرفِ الدنيا والآخرةِ).
[أخرجه بنحوه ابن ماجه (4295) مختصراً، والطبراني في الكبير (12/ 318) (13536) واللفظ له ،وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 309)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه].
وما أحسنَ أن يقف العبد مع نفسه كلَّ حين وقفةً يحاسبها فيها، ويدعوها أن ترعوي، وتتذكر الموت والآخرة، ويُذكِّرها بأن العمر مهما طال فهو قصير، وأنه لا أسرعَ من مرور الأعمار وانقضاء الآجال، كما قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: (ما شبَّهتُ الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط).
[مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص: 198].
ومن أحسن ما وقفت عليه في هذا المعنى مقالتان مؤثرتان لاثنين من أعلامنا المعاصرين، وهما الكاتب والأديب مصطفى لطفي المنفلوطي (1876- 1924م)، والأديب العالم الشيخ على الطنطاوي (1909- 1999م) رحمهما الله تعالى وغفر لهما.
فأما المنفلوطي فإنه لما بلغ الأربعين من عمره كتبَ يقول: (الآن وصلت إلى قمة هرم الحياة، وبدأت أنحدر في جانبه الآخر، ولا أعلم هل أستطيع أن أهبط بهدوء وسكون حتى أصل إلى السفح بسلام، أو أعثر في طريقي عثرة تهوي بي إلى المصرع الأخير هوياً).
ثم قال بعد أن ذكر جانباً مما كان يؤمله ويرجوه في عهد الصبا: (أما اليوم -وقد بدأت أنحدر من قمة الحياة إلى جانبها الآخر- فقد احتجب عني كل شيء، ولم يبق بين يدي مما أفكر فيه إلا أن أُعدَّ عدتي لتلك الساعة الرهيبة التي أنحدر فيها إلى قبري….). إلى أن قال: (وكان كل ما أفكر فيه أن أن أشيد لي بيتاً جميلاً أعيش فيه عيش السعداء الآمنين في مدينة الأحياء، فأصبحت وكل ما أفكر فيه الآن أن أبني لي قبراً بسيطاً ،يضم رفاتي في مدينة الأموات).
[النظرات: 3/255 وما بعدها].
وأما الطنطاوي فإنه كتب مقالاً نشرته مجلة الأزهر في عدد شهر المحرم 1379هـ الموافق يوليو 1959م بعنوان (وقفة على رأس الخمسين) أهداه إلى صديقه أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة التي كان الطنطاوي من كتابها البارزين . وقد كان الزيات في تلك الفترة يرأس تحرير مجلة الأزهر.
وفي مستهل هذا المقال يذكر الشيخ أنه نظر في التقويم فوجد أنه قد استكمل إحدى وخمسين سنةً قمريةً، وأنه من أجل ذلك وقف كما يقف التاجر في آخر السنة ليجرد دفاتره، ويحرِّرَ حسابه وينظر ماذا ربح وماذا خسر.
وقد طاف من خلال مقاله المذكور ببعض ما قدمه في حياته من عمل وما وصل إليه من مناصب وما ناله في هذه الدنيا من لذائذ، وما حمل فيها من عنت وعناء، وكذا ما ناله من مدح المادحين وقدح القادحين، ووقف من ذلك كله وقفات تأملية عميقة ينكر فيها قول من يقول: لا تنظر إلا إلى الساعة التي أنت فيها، وأن:
ما مضى فات والمؤمل غيب * ولك الساعة التي أنت فيها
فيبين الشيخ أن ما مضى لم يَفُت (ولكن كُتب لك أو عليك، أحصاه الله ونسوه، والآتي غيب، ولكنه غيب كالمشاهد).
وفي آخر مقاله يرجع الشيخ إلى نفسه يحاسبها ،ويتحسر على ما قصَّر فيه من الطاعات، ويقول: (يا أسفى؛ لقد مضى أكثر العمر وما ادخرت من الصالحات، ولقد دنا السفر وما تزودت ولا استعددت، ولقد قرب الحصاد ،وما حرثت ولا زرعت، وسمعت المواعظ ورأيت العبر فما اتعظت ولا اعتبرت، وآن أوان التوبة فأجَّلْتُ وسوَّفْتُ…) إلى أن قال: (اللهم سترتني فيما مضى فاسترني فيما بقي ولا تفضحني يوم الحساب).
ومن عجيب تصاريف القدر أن كلا الكاتبين كان -حين كتب ما كتب- يستشعر دنو الأجل وقرب الرحيل عن هذه الحياة الدنيا، ومع ذلك فقد عاش الطنطاوي بعد كتابة كلماته تلك أكثر من أربعين سنة، في حين لم يَعِش المنفلوطي بعد كتابة كلماته إلا سنوات قلائل حتى ذكر ناشر (النظرات) بعد وفاة المنفلوطي أنه حين كتب هذه الكلمات كان كأنما يتنبأ بدنو أجله رحمه الله.
فسبحانَ من قدَّر لكل حي أجلاً لا يعلمه إلا هو، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا). [آل عمران: 145]. (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) [لقمان: 34].
وبعد: فإذا كان هذا ما كتبه المنفلوطي حين بلغ الأربعين، والطنطاوي حين جاوز الخمسين، فما عسى أن يقول من بلغ الستين، بل شارف على السبعين؟!. فاللهم أحسن لنا الِختام، وتوفَّنا على ملة خيرِ الأنام. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ،وأَجِرْنا مِن خزيِ الدنيا، وعذاب الآخرة.. اللهم آمين.
د. عبد الآخر حماد
21/ 12/ 1444هـ- 9/ 7/ 2023م