د. عبد الآخر حماد يكتب: لله ثم للتاريخ
مواقف بعض العلماء والدعاة إبَّان محنة الجماعة الإسلامية في التسعينيات:
مِن صفات أهل الدين والإيمان العدلُ والإنصافُ، وعدمُ إصدار الإحكام على الأشخاص والجماعات، إلا بعد التثبت والتبيَّن من صحة ما يُنسب إليهم. وما ذلك إلا لما استقر في يقين أهل الحق من أننا محاسَبون على كل ما يصدر عنا من قول أو فعل، وأن الإنسان كما قال الله عز وجل: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). [ ق: 18]
وإن من التجارب المهمة التي عمَّقتْ في قلوبنا أهميةَ العدل والإنصاف، ووجوب الاعتراف بما عند الآخرين من الحق حتى لو خالفناهم في كثيرٍ مما يذهبون إليه، ما عاصرناه في تجربة الجماعة الإسلامية بمصر، وبخاصة في حقبتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الميلادي المنصرم .
وقد أشرت في مقالات سابقة لبعض ما تعرضت له الجماعة الإسلامية في الثمانينيات من التحامل الشديد عليها بحق أو بغير حق ،مِنْ كثير من الجهات الرسمية وغير الرسمية، وأنه كان هناك قلة من أهل العلم والفكر قد سلكوا مسلك العدل والإنصاف، فنصحوا وبينوا ،ودافعوا عن المظلومين قدر طاقتهم ،كما بينته في مقالاتي عن الشيخ محمود عبد الوهاب فايد رحمه الله .
أما في حقبة التسعينيات فقد قدَّر لي المولى عز وجل أن أكون خارجَ البلاد ،فكنت أتابع أخبارَ إخواني في مصر، ويعتصرني الألم حين أقرأ أو أسمع شيئاً مما يحدث لهم من الضر والأذى، وبخاصة بعدما تورطت الجماعة في مواجهة دامية مع النظام، أرى أنها قد جُرَّتْ إليها جراً ودُفعت إليها دفعا، وأنه لم يكن من الصواب الانجرار إلى تلك المواجهة التي كان من نتائجها ما ذكرناه من الضر والأذى الذي لحق بأبناء الجماعة وذويهم، وبأبناء الدعوة الإسلامية بصفة عامة.
وقد كان من أكثر ما يحز في نفسي ما كنت أسمعه في أجهزة الإعلام من التجني على الجماعة الإسلامية وانتهاز فرصة صراعها مع النظام للافتراءِ عليها وإلصاقِ الأكاذيب بها.
وكان أشدَّ مِن ذلك على نفوسنا ما كنا نجده من بعض أهل العلم والدعوة من قبول لتلك الأكاذيب، وترديد لها.
وفي المقابل كان يسعدني كثيراً أن أجد من أهل العلم من يُنصف الجماعة ،ولو مع تخطئها في بعض مواقفها.
ولنأخذ أمثلة سريعة على تلك المواقف المتقابلة التي عاصرناها، والتي يعلم الله أننا لا نذكرها بُغيةَ التشهير بأحد ولا الإساءة إلى أحد. وإنما هي مواقف للتاريخ، نوردها للتذكير بما ينبغي أن يكون عليه أهل العلم والدين من العدل والإنصاف ،ومحاولةِ الإصلاح قدر الطاقة.
1- فمما تعيه الذاكرة من المواقف المنصِفة ما سمعته من الدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله على قناة الجزيرة في برنامجه الشهير «الشريعة والحياة»، من أنه ينبغي على النظام المصري محاورة أبناء الجماعة، أو السماح للعلماء بالوصول إليهم لمحاورتهم.
ولا زالت ترن في أذني كلمات سمعتها منه عبر تليفزيون أبو ظبي (كانت الإمارات يومها راضية عن القرضاوي، وكان له برنامج أسبوعي في قناة أبو ظبي)، حيث قال عن أبناء الجماعة الإسلامية إنه يرى أن هؤلاء الإخوة لا ينقصهم الإخلاص ولا حبُّ هذا الدين العظيم، ولكن ربما أُتوا من قبل التسرع والحماسة الزائدة، فننصح بالجلوس معهم، والسماح للعلماء بمحاورتهم، ومحاولة الوصول إلى تفاهم معهم .
2- وفي المقابل فإني لا أستطيع أن أنسى موقفَ رجلٍ آخر من أهل العلم هو الدكتور سعيد رمضان البوطي غفر الله له، فقد شاهدته على شاشة قناة أبو ظبي في نفس تلك الفترة، وقد سُئل عن الجماعة الإسلامية بمصر، فانطلق كالسهم مندداً بالجماعة وتطرفها وإرهابها (بحسب رأيه). ثم قال ما فحواه: إنَّه ينصح الحكومةَ المصريةَ بأن تبحث عن البلاد التي تؤوي أعضاء تلك الجماعة، وتُضَيِّق عليهم السبل، وإنْ كانوا يتخذون من إحدى الدول المجاورة منطلقاً لهم ،فيجب محاصرتهم وقطع الطريق عليهم ،وعدم تمكينهم من الدخول لمصر.
وقد تعجبت كثيراً من كونِ عالم بهذا القدر يضع نفسه هذا الموضعَ، فيتكلم بمنطق الساسة ورجال الأمن، لا بمنطق العلماء والدعاة.
3- ومن أمثلة المواقف المتحاملة على الجماعة أيضاً ما قرأته في كتابٍ صدر في تلك الفترة بعنوان: «فتاوى الشيخ الألباني ومقارنتها بفتاوى العلماء»، حيث جاء في ص: 364 من الكتاب المذكور نقلاً عن تسجيل صوتي، أنه قد وجه للشيخ الألباني سؤال حول الجماعة الإسلامية في مصر، وأنَّ هناك فتوى صدرت من قادتها، بأنه إذا قبض على أحد أفراد الجماعة وتعرض للتعذيب، فإنه يجوز له الانتحار، وأن الشيخ قد أجاب ببطلان هذه الفتوى، ثم قال: (هذا الحكم خاصة من الجماعة الإسلامية -زعموا- أنهم أفتوا بعضاً أو أفتوا أنفسهم وجماعتهم وأفرادهم، أنه إذا وقع أسيراً في يد الحاكم الظالم أنه يجوز له أن ينتحر. من أين جاء هذا الحكم؟ ألم يُصَب المسلمون الأولون بمثل ما يصاب به هؤلاء المتأخرون؟ فهل أفتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الفتوى؟ هذا يأتي بسبب الجهل أولاً بالكتاب والسنة، وثانياً الاستعجال بإقامة ما هو واجب وهو إقامة الحكم بالإسلام بالكتاب والسنة ،فكيف يقيم الحكم بالكتاب والسنة من يفتي عاجلاً بخلاف الكتاب والسنة؟….).
وكان مما حزَّ في نفسي حين قرأت هذا الكلام أنني أعلم أن الجماعة الإسلامية لم تُفتِ بهذا الذي نسبه إليها السائل، وسايره فيه الشيخ رحمه الله دون تبينٍ أو تثبتٍ ، وقد بينت في كتابٍ لي صدر في تلك الفترة بعنوان: «وقفات مع الشيخ الألباني حول شريط من منهج الخوارج»، أنه لا صحة لهذا الكلام، بل نشرتُ في ذلك الكتاب نصَّ بيان كانت قد أصدرته الجماعة في تلك الفترة بعنوان: «بيان الإفك»، وفيه تنفي الجماعة نفياً قاطعاً أن يكون قد صدر منها بيان تدعو فيه أعضاءها للانتحار حين القبض عليهم، وأنها لا تستبعد أن يكون النظام المصري هو الذي اختلق تلك الأكذوبة ليتمكن من قتل أكبر عدد من المعتقلين ،ثم يدعي أنهم انتحروا استناداً إلى هذا البيان المكذوب..
4- ومن المواقف الجيدة التي لا بد من الإشارة إليها موقفٌ للدكتور محمد سليم العوا، وذلك غداة وقوع حادث الأقصر الشهير في نوفمبر من عام 1997، حيث استمعتُ في التعليق على ذلك الحادث إلى محاورةٍ عبر إذاعة «لندن» بين الدكتور العوا، والكاتب الصحفي عادل حمودة.
ومما لا يزال عالقاً بذاكرتي من ذلك الحوار أن الدكتور العوا -متعه الله بالصحة والعافية- قد دعا إلى محاورة قادة الجماعة من أجل الوصول إلى حلٍ يوقف نزيف الدماء، فرد عليه عادل حمودة بانفعال شديد قائلاً: (نتحاور مع مين يا دكتور؟ نتحاور مع أشباح لا ندري مَن هم ولا أين هم؟).
وهنا رد عليه الدكتور العوا بهدوئه المعهود قائلاً: (يا أستاذ عادل، هم أشباحٌ بالنسبة لي ولك، وأما بالنسبة للجهات الأمنية فهي تعرف مع مَن تتحاور لو أرادت الحوار).
وهذا الذي طالب به الدكتور العوا كان يتمناه كثير من المخلصين، من أجل الخروج من النفق المظلم، والطريق المسدود الذي وصلت إليه الأمور في مصر. وقد تحقق هذا الذي تمناه أولئك المخلصون، ولو بعد حين. حيث تم تفعيل المبادرة التي كان قادة الجماعة قد أعلنوها قبل ذلك الحادث بحوالي أربعة أشهر، تلك المبادرة التي رأينا أيضاً مَن يشكك فيها ويتهم أصحابَها بالخداع والمناورة، بينما أشاد بها كثير من العلماء وأهل الرأي والفكر، واعتبروها خطوة في اتجاه تصحيح الأوضاع، ورفع المعاناة والظلم عن المظلومين .ولكن هذا حديث آخر ،فلعلنا نرجع إليه بعد حين بمشيئة المولى عز وجل .
أ.د. عبد الآخر حماد
12/ 3/ 1445هـ- 27/ 9/ 2023م