السبت سبتمبر 21, 2024

د. عبد الآخر حماد يكتب: مغزى اتخاذ الهجرة مبدأً للتاريخ الإسلامي

من أقوى الإجماعات التي وقعت في عهد الصحابة رضوان الله عليهم اتفاقهم في عهد عمر رضي الله عنه على جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من السنة التي هاجر فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.

وقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/268) عن بعض أهل العلم أن القضايا التي اتفقت له صلى الله عليه وسلم ،وكان يمكن التأريخ بها هي: مولده ،ومبعثه ،وهجرته ،ووفاته صلى الله عليه وسلم ،فرجح عندهم جعلها من الهجرة؛ لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه، فانحصر في الهجرة .

ولا شك أن هذا الذي نقله الحافظ رحمه الله في سبب اختيار الهجرة مبدأً للتاريخ الإسلامي معقول ومقبول. لكنا حين نوسع دائرة النظر والتأمل يمكننا أن نضيف إلى ذلك معاني أخر حول بواعث اختيار الصحابة رضوان الله عليهم لسنة الهجرة لتكون بداية للتاريخ الإسلامي.

1- فمن ذلك التأمل في كون الهجرة النبوية الشريفة نصراً من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه كما جاء به النص واضحاً صريحاً في كتاب الله عز وجل ؛حيث قال سبحانه: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) [التوبة 40].

ولم يكن نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم متمثلاً فقط في إنجائه من المشركين ،وعدم تمكينهم منه، كما يذكره المفسرون غالباً عند هذه الآية، وإنما يدخل في معاني النصر أيضاً ما مثلته الهجرة من نقلة نوعية في تاريخ الدعوة الإسلامية. حيث كانت الهجرة بدايةَ تأسيس دولة الإسلام التي لا عز للمسلمين إلا بوجودها والانضواء تحت لوائها، ثم ما تلا ذلك من الوقائع التي نصر الله فيها رسوله والمؤمنين، وقد أشار ابن عطية إلى نحو من هذا حيث قال في تفسير هذه الآية: ( ويحتمل أن يكون قوله: (فأنزل الله سكينته) إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح، لا أن تكون هذه الآية تختص بقصة الغار والنجاة إلى المدينة، فعلى هذا تكون الجنود الملائكة النازلة ببدر وحنين…). [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز:(6/500)]. وبهذا المعنى تكون الهجرة علامة فارقة بين عهدين: عهد الاستضعاف ،وعهد العز والتمكين.

ومعنى ذلك أن الصحابة فهموا جيداً أهمية الدولة في الإسلام ؛فحيث كانت الهجرة بداية للتمكين لدولة الإسلام ،ناسب أن تكون بداية للتاريخ. فكأن تاريخ الإسلام الحقيقي يبدأ بقيام دولة الإسلام في المدينة.

وقد ذكر السهيلي فيما نقله عنه ابن حجر أن الصحابة قد استفادوا ذلك من قوله تعالى:(لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) [ التوبة:108 ]، فقد وصفت الآية اليوم الذي أسس فيه مسجد قباء أو المسجد النبوي – على اختلاف بين المفسرين في ذلك- بأنه أول يوم، قال السهيلي: (ومعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقاً، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمَر، وهو أول الزمن الذي عزَّ فيه الإسلام، وعبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ربه آمنا، وابتدأ بناء المسجد فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى: (من أول يوم) أنه أول أيام التاريخ الإسلامي ).[ فتح الباري: (7/268) ].

إن هذا الموقف من الصحابة رضوان الله عليهم يؤكد ما نلهج به دائماً من أن الإسلام ليس مجرد علاقة روحية بين العبد وربه، وإنما هو نظام كامل شامل لكل مناحي الحياة.

والمسلمون خلال تاريخهم الطويل لم يكونوا يعرفون تلك النظرة العلمانية التي تفصل بين الدين وشؤون الحياة.

وإنما وفد إلينا ذلك الفصام النكد بين الدين والدولة ضمن ما وفد إلينا من جراء الاحتلال الأوربي لبلاد المسلمين، وغذَّاه في بلادنا ونمَّاه وجود أناس من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، ولكنهم أشربوا في قلوبهم تلك النظرة الغربية القائمة على الفصل بين الدين والدولة . وأما أهل الدين والإيمان فإنهم موقنون بما جاء في كتاب ربهم وسنة نبيهم من وجوب الاحتكام إلى شرع الله تعالى في كل صغير وكبير ، كما في قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) [المائدة : 49] ، وقوله: (أفحكم الجاهلية يبغون * ومَن أحسنُ من الله حكماً لقومٍ يوقنون) [المائدة: 50]. إلى غير ذلك من النصوص الآمرة بإقامة الأحكام العامة: كنصوص الجهاد، والحدود ، وغير ذلك مما يقطع كل عاقل أنه لا يمكن القيام به إلا من خلال دولة وسلطان.

2- ثم إن هناك ملمحاً آخر نلمحه من خلال توافق الصحابة رضوان الله عليهم على اختيار سنة الهجرة بداية للتأريخ ،ألا وهو استقلال الشخصية المسلمة ،وعدم تبعيتها لغيرها ،فقد كان أمام الصحابة وهم يتشاورون في الأمر كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية (3/204) أن يأخذوا بسنة الفرس الذين كانوا يؤرخون بملوكهم واحداً بعد واحد ،أو أن يأخذوا بطريقة الروم الذين كانوا يؤرخون بملك الإسكندر الأكبر. فكره عمر رضي الله عنه ومعه الصحابة ذلك. واستقر رأيهم على التأريخ بسنة الهجرة النبوية. وكأنهم رأوا أنه لا بد أن يكون للأمة المسلمة شخصيتُها المتميزة التي تأبى التبعية للغير ،ولعل ذلك من أسباب عدم تأريخهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم مع عظيم حبهم له صلى الله عليه وسلم ومعرفتهم جميعاً بأن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان خيراً وبركة ورحمة للبشرية جمعاء ،لكنهم رأوا في ذلك مشابهة لمن نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم، فرجعوا إلى حادث الهجرة الذي كان بدايةً لاستقلالية الأمة، وقدرتها على التميز عن غيرها.

هذا والله تعالى أعلى وأعلم .

د. عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين

2/ 1 /1445هـ- 20/ 7/ 2023م

Please follow and like us:
د. عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
قناة جريدة الأمة على يوتيوب