الأثنين مايو 20, 2024

د. عبد الآخر حماد يكتب: موقعةُ جملِ الخمسينيات

حرصت على إضافة كلمة «الخمسينيات» للعنوان لكي يفهم قارئ هذه السطور أني لا أتحدث عن موقعة الجمل الشهيرة التي وقعت إبان الفتنة بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 36 للهجرة النبوية الشريفة ،والتي سميت بهذا الاسم نسبة إلى الجمل الذي كانت تركبه عائشة رضي الله عنها حين خرجت مع طلحة والزبير رضي الله عنهما.

كما أني لا أتحدث عن الحادثة التي حدثت إبان ثورة يناير 2011، والتي هاجم فيها بعض المنحازين لنظام مبارك -بالجمال والبغال والخيول- معتصمي ميدان التحرير. والتي سماها البعض موقعة الجمل أيضاً. 

وإنما عَنيْتُ جملاً آخر وموقعةً أخرى لا حرب فيها ولا قتال، وإنما هي معركة شرعية دارت رحاها في أوائل حقبة الخمسينيات من القرن الميلادي الماضي، حول السُّنة والبدعة، وكان موضوعها هو الاحتفالات الرسمية التي كانت تقام في مصر سنوياً بمناسبة ما كان يسمى بالمحْمَل، وهو الموكب الذي يحمل كسوة الكعبة، حيث كانت مصر تهدي إلى الكعبة المشرفة كِسوةً سنويةً منذ عصر المماليك، إلى أن توقفت في عصر الرئيس عبد الناصر أيام خلافه مع الملك سعود سنة (1381ه- 1962م).

وفي ذلك الحفل السنوي كانت تقع من العوام وأرباب الطرق الصوفية بدعٌ ومخالفاتٌ شرعية: مثل تقبيل مقود الجمل الذي يحمل هودج الكسوة، والطواف به سبع مرات، ودق الطبول، وغير ذلك.

وينبغي أن أبادر إلى القول بأني اقتبست هذه التسمية من الشيخين الجليلين عبد الرحمن الوكيل رحمه الله (وكيل جماعة أنصار السنة في ذلك الوقت)، والعلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله الذي كان في تلك الفترة مشرفاً على تحرير مجلة الهدي النبوي (مجلة أنصار السنة)، حيث تابَعَا هذه المعركة على صفحات تلك المجلة، وسمياها: (موقعة الجمل).

ومن خلال مقالاتهما سأعرض لتلك المعركة بشكل موجز:

1- كانت البداية أن وجَّه أحد نواب البرلمان المصري في غضون عام 1950م استفتاءً لعلماء المسلمين حول الاحتفال بالمحمل، وما يحدث فيه. وبحسب ما ذكر الشيخ عبد الرحمن الوكيل في مقال له بمجلة الهدي النبوي (عدد محرم 1370هـ)، تحت عنوان: (موقعة الجمل.. بدعة المحمل مظهر من مظاهر الوثنية). فإنَّ المفتي السابق الشيخ حسنين مخلوف (حيث كان وقتها قد ترك منصب الإفتاء)، قد بادر فأفتى بأن كل ذلك بدع منكرة مستحدثة في الدين.

لكن الشيخ علام نصار -الذي صار مفتياً للديار المصرية بعد الشيخ مخلوف- لم تعجبه تلك الفتوى، فرد عليها مستدلًا بأن ذلك من قبيل السُّنة الحسنة، وأن تقبيل مقود الجمل هو تعظيم لرب الجمل، ورب الكعبة.

فعاد الشيخ مخلوف إلى الرد على ذلك القول مبيناً أن الأمور التعبدية التي لا تُدرك العقولُ سرَّها ليست موضعاً للقياس عليها كما بينه علماء الأصول.

وقد أيد الشيخُ الوكيل فتوى الشيخ مخلوف، وكذا أيدها الشيخ أحمد شاكر في تعليق له على ذلك المقال، ودعيا المفتي الشيخ علام نصار إلى أن يراجع نفسه ويعود إلى الحق، غيرَ مترددٍ ولا متوانٍ بحسب تعبير الشيخ شاكر رحمه الله.

2- ثم دخل على الخط الشيخُ محمود شلتوت رحمه الله، والذي كان وقتها عضواً بهيئة كبار العلماء، وعضواً بلجنة الفتوى بالأزهر (قبل أن يصير شيخاً للأزهر بعد ذلك) حيث تحدَّث -بناءً على طلب من الشيخ أحمد شاكر- عبر محطة الإذاعة المصرية، بتاريخ 3/ 10/ 1950م حديثاً شاملاً حول هذا الموضوع، مبيناً أن الطواف حول الأضرحة ومقاصير الأولياء، ابتداع في الدين وشيء لم يأذن به الله.

ثم قال بحسب ما نشرته الهدي النبوي (عدد ربيع الأول 1370هـ): (ومنه الطواف في الدائرة التي ترسم للمحمل فيطوف بها جمل المحمل سبع مرات، وقد اقتُرِحتْ مضاهاةً لطواف الحجاج ببيت الله الحرام.. فمن قبَّل الأحجار والقبور والجدران والستور.. فقد خرج عن هذا التشريع، وابتدع في الدين ما ليس منه.. ومن ذلك ما يقع في حفلة المحمل، التي أحدثتها شجرة الدر، من تقبيل مقود الجمل، واستلام الجمل بالإشارة لمن لا يقدر على لمسه تبركاً به ،وتشبهاً باستلام الحجر الأسود وتقبيله).

3- وبعد ذلك بحوالي عامين ثار الحديث مجدداً حول تلك القضية، حيث أرسل رئيس الوزراء علي ماهر باشا بتاريخ 18/ 8/ 1952م (أي بعد قيام ثورة يوليو بحوالي شهر) برسالة إلى الشيخ حسنين مخلوف، الذي كان قد عاد لمنصب الإفتاء مرة أخرى، يطلب منه فيها بيان الحكم الشرعي فيما يحدث في حفلة المحمل السنوية. ويقترح عليه أن يتصل بشيخ الأزهر، وبرئيس المحكمة الشرعية العليا ليكون الرأي جماعياً.

وقد رد الشيخ مخلوف رحمه الله على تلك الرسالة بفتوى مطولة حرص على أن يأخذ فيها رأي الشيخ عبد المجيد سليم (شيخ الأزهر وقتها)، والشيخ حسن مأمون (رئيس المحكمة الشرعية، والذي تولى مشيخة الأزهر بعد ذلك)، حيث أقرَّاه على رأيه. وقد نشرت مجلة الهدي النبوي نص الفتوى في عددها الصادر في شهر ذي الحجة 1371هـ . بتوقيع المشايخ الثلاثة رحمهم الله تعالى.

وقد جاء في تفاصيل تلك الفتوى أن ذلك الاحتفال السنوي قد صار يتضمن بعض البدع التي لا أصل لها في الدين، ويجب إزالتها والقضاء عليها. ومن تلك البدع بحسب ما جاء في الفتوى المشار إليها: (الطواف بالمحمل سبع مرات حول الدائرة التي ترسم له أمام السرادق المعد للاجتماع الرسمي؛ رمزاً إلى الطواف حول الكعبة سبعة أشواط ،مع أن الطواف لم يشرع إلا حول الكعبة ، ولا يجوز الرمز إلى ذلك بأي حال).

ومنها: (دوران عدة من الجمال حول هذه الدائرة، وعليها رجال يطبِّلون ويزمرون بملابس خاصة وصورة رمزية) ومنها: (تقبيل أمير الحج ومن معه مقودَ الجمل الذي يحمل الهودج المرموز به إلى هودج شجرة الدر، حين حجت في عهد دولة المماليك، وليس لهذا أصل في الدين، فضلاً عن أنه مما تأباه النفوس الكريمة.

والتقبيل لم يؤذن به شرعاً في المناسك أو غيرها إلا في الحجر الأسود) ومنها: (وقوف جماعة من مشايخ الطرق وأتباعهم أمام السرادق يقرأون الفاتحة بأصوات صاخبة مزعجة، وما كانت تلاوة القرآن لذلك، ولا على هذا الوجه المنكر).

ثم ذكرت الفتوى أن هذه الأعمال قد تأصلت في نفوس العامة حتى ظنوها من الدين ، والدين يأباها ويرشد إلى أنها من السوء بمكان ،وفي إقرارها تضليل للعامة باعتقادهم أنها من الدين ، وهي ليست من الدين في شيء.

4- وقد نزلت الحكومة المصرية على هذه الفتوى؛ فمنعت تلك الاحتفالات البدعية. وهنا قامت قيامة أرباب الطرق الصوفية، وحاولوا منع تنفيذ ذلك القرار بشتى السبل؛ حتى إن شيخ مشايخ الطرق الصوفية في ذلك الوقت قد توجه -بحسب ما نشرت مجلة الهدي النبوي في محرم 1372هـ- ومعه بعض أعضاء مجلسه الأعلى إلى مكتب رئيس الوزراء، محتجين متوعدين بالويل والثبور مَنْ يمنعهم من إقامة حفلة المحمل. لكن الحكومة لم تستجب لمطلبهم هذا، واستمرت في الأخذ بالفتوى الرسمية بمنع تلك الاحتفالات، إلى أن توقف إرسال الكسوة بعد ذلك بسنوات كما ذكرنا.

وبعد: فليس المقصود من كتابة هذه السطور مجرد السرد التاريخي لوقائع قد انتهت وولىَّ زمانها. وإنما الهدف أن نُذكِّرَ بأولئك النفر الكرام من رجال الأزهر الشريف، وما كان لهم من المواقف الطيبة في الحفاظ على السنة ومحاربة البدعة.

وليستبينَ لنا البون الشاسع بين تلك المواقف العظيمة، وبين ما نراه الآن مِنْ غلبة أهل البدع والتصوف الباطل، ومسارعةِ كثيرٍ من العلماء الرسميين في إرضاء أهواء العامة ،ورميِهم كلَّ من يدعو للتمسك بالسنة بالتشدد والتطرف.

وحسبنا الله ونعم الوكيل .

د. عبد الآخر حماد

27/ 12/ 1444هـ-15/ 7/ 2023م

Please follow and like us:
د. عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
قناة جريدة الأمة على يوتيوب