بحوث ودراسات

د. عبد الآخر حماد يكتب: نصرٌ أم هزيمة؟ هو فتح بإذن الله

بمناسبة الجدل الدائر حول ما إذا كان ما حدث من الهدنة انتصاراً لأهلنا في غزة أم هزيمةً لهم، تذكرت كلاماً لشيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى:

(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). [غافر: 51].

حيث أورد رحمه الله سؤالاً مفاده: كيف يستقيم الجزم بأن الله تعالى لا بد أن ينصر رسله وأولياءه في الحياة الدنيا، مع أننا نعلم أن هناك من الرسل من تمكن أعداؤه منه فقتلوه ومثَّلوا به، كأشعياء ويحيى بن زكريا وأشباههما.

ومنهم من همّ قومُه بقتله، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجياً بنفسه، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام، وعيسى الذي رُفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله،

فأين النصرة في الدنيا؟ ثم أجاب بأجوبة منها أنه قد يكون المقصود أن الله تعالى ينتقم لهؤلاء المظلومين، ولو بعد وفاتهم،

كما فعل بقتلة شعياء، الذين سلط الله عليهم مَن سلط حتى انتصر بهم مِن قتلتِه، وكما فعل سبحانه بقتَلة يحيى، حيث سلط عليهم بختنصر.

مفهوم النصر

وكما انتصر سبحانه لعيسى من مريدي قتله بأن سلط عليهم الروم حتى أهلكوهم..

إلخ ما ذكره رحمه الله في تفسيره [(21/ 401) وانظر أيضا تفسير ابن كثير (4/ 84)].

فقد بين الطبري ومن بعده ابن كثير أن مفهوم النصر قد يتسع ليشمل حالات تكون فيها الغلبة الآنية لأعداء الله،

ولكن الوعد الإلهي بنصر أوليائه لا بد أن يتحقق ولو بعد عشرات السنين.

ثم وجدت لصاحب الظلال رحمه الله في الإجابة على التساؤل السابق كلاماً أشمل مما ذكره الطبري، حيث توسع في تحديد مفهوم النصر والهزيمة،

مبينا أن الناس (يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم… ولكن صور النصر شتى.

وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة.. إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها..

أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك -في منطق العقيدة- أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار.

كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار.

هذه صورة وتلك صورة. وهما في الظاهر بعيد من بعيد.

فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب! والحسين -رضوان الله عليه- وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب المفجعة من جانب؟

أكانت هذه نصرا أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة.

ما النصر؟ وما الهزيمة؟

فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف،

وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه…

وكم من شهيدٍ ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده….).

ثم يتساءل متعجباً: (ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور. ومن القيم.

قبل أن نسأل: أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا! [في ظلال القرآن: 5/ 3086)].

وفي فصل: «هذا هو الطريق» من كتابه معالم في الطريق (ص: 173 وما بعدها)،

يتحدث عما حدث لأصحاب الأخدود باعتباره انتصاراً، مع أنهم قد قُتلوا جميعاً، فيبين أنه في حساب الأرض،

يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان، ولكن القرآن الكريم يعلمنا أن النصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة،

فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.

انتصار قيمة العقيدة

ويقول: (إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة… وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة،

وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة، وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم،

وانتصرت على جواذب الأرض والحياة، وانتصرت على الفتنة انتصاراً يشرف الجنس البشري كله في جميع الأعصار، وهذا هو الانتصار).

في ضوء هذا الذي نقلناه يمكننا القول: إن مفهوم النصر والهزيمة، يمكن أن يتسع ويضيق بحسب الزاوية التي ينظر المرء منها،

خاصةً وأننا لا نجد نصاً شرعياً قاطعاً في تحديد ضوابط النصر أو الهزيمة.

ولعله مما يؤيد هذا الذي ذهبنا إليه ما وجدناه في كتب السنة والسيرة من اختلافٍ في الحكم على نتيجة سَريَّة مُؤتة؛ وهل كانت هزيمة للمسلمين أو نصراً لهم.

وقد لخص الإمام ابن القيم ذلك في زاد المعاد (3/ 383) فقال:

(وقد ذكر ابن سعد أن الهزيمة كانت على المسلمين. والذي في صحيح البخاري أن الهزيمة كانت على الروم، والصحيح ما ذكره ابن إسحاق أن كل فئة انحازت عن الأخرى).

نصر أم هزيمة

فمَنْ رأى أنها هزيمة للمسلمين بنى ذلك على أن مقتل القادة الثلاثة (زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة)

ثم انسحاب المسلمين أمام عدوهم، لا يمكن أن يكون نصراً وإنما هو هزيمة.

ومن رأى أن النصر كان حليف المسلمين بنى ذلك على أنه لم يُقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً مع كثرة من قتل من الروم؟

ولأن مجرد نجاة الجيش من مواجهة هذا العدد الهائل من جند الروم يعد نصراً للمسلمين.

ولقوله صلى الله عليه وسلم بعد أن أخبر الصحابة باستشهاد القادة الثلاثة: (.. ثُمَّ أخَذَهَا خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ عن غيرِ إمْرَةٍ فَفُتِحَ عليه…).

[أخرجه البخاري (3063)].

الرأي الوسط

والرأي الوسط الذي تبناه ابن إسحاق وصححه ابن القيم مبني على أن المسلمين لم يحققوا نصراً حاسماً،

لكن بالنظر إلى عدم فقدانهم من الخسائر إلا ما ذكرناه فلا تعد تلك هزيمة.

وهذا ما حققه أحد العسكريين المعاصرين وهو العقيد محمد فرج حيث قال عن تلك السرية في كتابه العبقرية العسكرية في غزوات الرسول (ص: 391):

(ولو نظرنا إلى المعركة بالميزان الصحيح ومن وجهة النظر الحربية، لتَبينَّ لنا أن المسلمين لم يخسروا المعركة، وإنْ لم يكن النصر إلى جانبهم) ثم ذكر قريبا مما ذكرناه.

وعلى هذا القول الوسط يكون المقصود بالفتحِ في الحديث السابق هو مجرد نجاح خالد في الانحياز بجيش المسلمين،

لا أنه حقق نصراً في ساحة القتال، وقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/ 512)

ذلك القول عن بعض أهل العلم وأنهم رأوا أن «المراد بالفتح هو انحيازه بالناس حتى رجعوا سالمين».

صلح الحديبية

ولعله مما يشهد لفهمهم هذا أن الله سبحانه قد سمى صلح الحديبية فتحاً، فقال عنه: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) [الفتح:1]،

مع أنه لم يتحقق فيه نصر مادي للمسلمين، بل كان فيه من الشروط المجحفة ما شقَّ تحمله على الصحابة الكرام،

حتى تساءل عمر فقال: (يا رَسولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا علَى الحَقِّ وهُمْ علَى البَاطِلِ؟ فَقالَ: بَلَى.

فَقالَ: أَليسَ قَتْلَانَا في الجَنَّةِ وقَتْلَاهُمْ في النَّارِ؟ قالَ: بَلَى، قالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا…).

[أخرجه البخاري (3182) ومسلم (1785)]..

فلما نزلت سُورَةُ الفَتْحِ، وقَرَأَهَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى عُمَرَ، قال عمر كما في تتمة الحديث السابق: (يا رَسولَ اللَّهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قالَ: نَعَم).

وعلى ذلك فنحن نريد أن نتجاوز الحديث عن كون ما حدث نصراً أم هزيمة، لننطلق من هذين النصين: القرآني والنبوي في إطلاق صفة الفتح على موقفين لم تتبين فيهما ملامح انتصار مادي كامل للمسلمين،

فنقول إن ما حدث هو فتح للإسلام والمسلمين بكل المقاييس، فيكفي أن نتذكر أن طوفان الأقصى -برغم كل ما ترتب عليه من آلام وتضحيات –

كان سبباً في إفشال المخططات التي كانت تدبر لإنهاء القضية برمتها.

كما يكفي أن الأعداء بعد أربعمائة وسبعين يوماً من القتل والتدمير لم يحققوا أهدافهم، بل لم يستطيعوا حتى أن يصلوا إلى أماكن وجود أسراهم.

قبول العدو مبدأ المفاوضات فشل عسكري

بل إن قبول العدو بمبدأ المفاوضات هو في حد ذاته بمثابة تسليم منه بفشل حملته العسكرية؛

فإنَّ مما درسناه في العلوم السياسية، أن أطراف الصراع لا تلجأ إلى أسلوب التفاوض إلا في حالة عدم قدرة أي طرف على حسم الصراع لصالحه.

وإلا فما الذي يُجبر طرفاً قوياً قادراً على فرض إرادته بقوة السلاح على الجلوس إلى مائدة مفاوضاتٍ يُضطَر فيها إلى تقديم بعض التنازلات؟

ثم ألا يكفي أن بنية المقاومة لا تزال بحمد الله قويةً متماسكةً عصيةً على الاختراق،

أو لا يكفي ما نراه اليوم من الروح المعنوية العالية لأهلنا في أرض العزة واحتضانِهم لأبطالهم والتفافِهم حولهم.

ثم ما حققه الاتفاق من بدء عودة المواطنين إلى مناطقهم في أمان، إلى غير ذلك من الفوائد والثمرات الظاهرة للعيان.. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

د. عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights