د. عبد الرزاق مقري يكتب: الراشد.. شيخ من شيوخي ترجل
كتبت ذات يوم قائمة بخمسة شيوخ تتلمذت عليهم وأثروا في حياتي وكان لهم دور كبير في المسار الذي سلكته في طريق الدعوة إلى الله والإصلاح الاجتماعي والسياسي، وهم على التوالي حسب الترتيب الزمني الذي عرفتهم فيه: الشيخ محمد مخلوفي، الشيخ أحمد بوساق، الشيخ محمد أحمد الراشد، الشيخ محفوظ نحناح، الشيخ القرضاوي.
لكل من هؤلاء الأساتذة الكبار قصص معي وتأثير عليّ عبر الزمن. لا شك أن ثمة علماء كثر وقادة غير هؤلاء حصلت منهم الاستفادةُ وتلقي القيم والمعارف، غير أن شيخك هو الذي تتلقى منه المنهج الذي يسطّر طريقك، والقيم التي تحدد معالمك، وما تنقله عنه لغيرك من الأجيال التالية، وما يصنع فعليا معالم شخصيتك، مما تعرفه في نفسك، سواء انتبه الناس لذلك أم لم ينتبهوا، وشيخك كذلك هو الذي يجيزك في ما أخذته عنه، والذي يبين للناس أنك تلميذه ويسعد بذلك ويعتز به. وكل هذا حقيق في ما بيني وبين هؤلاء الأفاضل الخمسة من الناس، وليس من شروط صحة العلاقة بين الشيخ وتلميذه أن لا تختلف مع شيخك، بل إن التلميذ النجيب هو الذي يضيف على شيخه ما لم يقم به، ويستدرك على رأيه برأي مخالف يثري رصيده ويضمن له البقاء والحسنات الجارية، وما كان تطرف التقليد يوما طريق الإبداع وتطوير المناهج.
إن الحديث اليوم إنما هو عن الشيخ محمد أحمد الراشد. لقد عرفت كتب الفقيد قبل أن ألقاه، وأنا شاب في بداية العشرينيات من عمري، فلم أحتف لعقود طويلة بكتب كاحتفائي بـ«المنطلق» و«العوائق» و«الرقائق»، و«نظرية صناعة الحياة»، بل لقد درسّت هذه الكتب لأعداد هائلة من الشباب، في الحلقات والملتقيات والندوات والمخيمات الصيفية عبر عقد الثمانينات كله، ولعل العديد من هؤلاء سيذكر ذلك لو قرأ هذا المقال، كما أنني أشهد أمام الله أن أول أعظم كتاب صنع فكري الاستراتيجي، مما كتبه المفكرون الكبار، هو كتاب «نظرية صناعة الحياة». لقد كان لهذا الكتاب بالذات أثر كبير في بناء معالم شخصيتي في المجالات الفكرية والدعوية والاستراتيجية، بل حتى في تنظيم حياتي الشخصية، وعليه بنيت منظومتي القيادية التي عُرفت بها في الحياة الدعوية.
وحين تعرفت على الشيخ محفوظ نحناح رحمه وجدته كذلك ضمن هذه المدرسة، في طريقة تفكيره واهتماماته وأولوياته وأبعاده الاستراتيجية، وقد درّس رحمه الله كتاب «المسار» على حلقات طويلة في البليدة، وعن طريقه تعرفنا على «مجلة العين» في الفكر والدعوة، كما أنه أرسل رحمه الله عددا من الشباب أخذوا عن الشيخ أحمد الراشد مباشرة خارج الجزائر، ورأيت بعدها حجم القرب والمحبة بنفسي بين الرجلين، حتى لكان يُقال عن الشيخ محفوظ إنه ينتمي إلى المدرسة العراقية في مجال الدعوة إلى الله.
لقد تعرفت على الشيخ محمد أحمد الراشد مباشرة في أمريكا عام 1994 في زيارة صحبة الشيخ محفوظ نحناح للمشاركة في مؤتمر في لوس انجلس، وما إن تعرف عليّ، حتى سألني عن صلتي السلالية بعلماء «آل المقري» وأشهرهم العالم الكبير «أبو العباس أحمد بن محمد المقري» صاحب الكتاب الشهير «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» فلما تأكد من الصلة من حيث أن أصل هذه العائلة العلمائية من نواحي المسيلة بمدينة «مقرة» فرح فرحا كبيرا إذ هو عليم بالأنساب ويركز كثيرا في التربية القيادية على أصول المعادن كما أخبرني بنفسه.
لقد كان المؤتمر الذي أشرت إليه مؤتمرا مهيبا كبيرا، ولكن كان الصراع فيه بين المناهج الإسلامية على أشده، وكان النقاش حول الأزمة الجزائرية يفرض نفسه على باقي الملفات، وفي الأزمات يظهر الصديق الوفي.
أخذ الشيخ محفوظ الكلمة فتحدث ببلاغة عن رأيه في ما كان يحدث في الجزائر ولم يأبه بالصخب الذي كان يقطع كلماته، ثم أخذت الكلمة أشرح موقف الحركة في إدانتها لكل أشكال التطرف محذرا من المؤامرة العظيمة عن الإسلام والحركة الإسلامية برمتها، وسط الأصوات العالية المعترضة، ولا يزال ذلك الشريط معروضا على اليوتيوب، وفي مواجهة تلك الأمواج العاتية التي كادت تعصف بنا لو لا قوة حزام المنظمين، لم يسندنا سوى عالمين من العلماء الذين كانوا حاضرين، منهما الشيخ محمد أحمد الراشد. وما كان الشيخ الراشد ليعمل ذلك حميّة ولكن قناعة عميقة بالشيخ محفوظ وتلاميذه، وقد بقي على ذلك العهد يسند الشيخ محفوظ كقائد مفكر ألمعي من قادة ومفكر الأمة، وقد عبر عن ذلك ببلاغته المعهودة في مرثيته في الشيخ محفوظ نحناح عند وفاته رحمهما الله تعالى وأسكنهما فسيح جناته.