الخميس سبتمبر 19, 2024
بحوث ودراسات

د. عبد السلام البسيوني يكتب: السلفية المستباحة

السلفية المستباحة (1) بين تفرق الأبناء، وخطل الأدعياء، وكلَب الأعداء

هي -في زعمي- كلمة منيرة شريفة عظيمة؛ لكنها متهمة مظلومة، مغموصة، يشير إليها بالتقبيح والاستهجان أصناف من البشر:

* إسلاميون مختلفو النسبة!

* وعلمانيون مختلفو اللافتة!

* ورسميون مختلفو المهمات!

* شرقيون وغربيون!

* ومن يفهمون ومن يجهلون!

 صارت السلفية (ملطشة، وحيطة واطية) يتسوّرها أصحاب الأهواء؛ لينالوا من الإسلام؛ من خلال تحويلها إلى ممثل أصيل عن الجمود، وبلادة الذهن، وسوء فهم الإسلام، والفهم السطحي، والفقه الظاهري! وجعلوها كلمة متهمة مرفوضة؛ كما فعلوا مع ألفاظ عليا، مثل الإسلامية، والأصولية، والسنة، والجهاد، والوهابية، وغيرها!

 وهي نسبة شريفة؛ لأنها تتشرف برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبصحابته الكرام المباركين، وآل بيته الغر الميامين، وتابعيه من القرون الثلاثة الأولى الفاضلة، ثم بمن تلقتهم الأمة بالقبول من الموقعين عن رب العالمين، كالبخاري، وابن حجر، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، والسيوطي، والشوكاني، وغيرهم.

 لكن لو ظلمها شانئـوها ومقاوموها فإن كثيرًا من المنتسبة لها يسيؤون، ويظلمون، ويشوهون هذه الدلالة الشريفة العـظيمة، بحسن نية، وكثير من الغفلة والاجتراء، والجنوح عن مقتضيات اللفظة؛ وإن زعموا أنهم أفهم لها من ابن تيمية والذهبي وابن عبد الوهاب والشنقيطي وابن باز!

 وأجدني في هذا المقام مضطرًّا أن أقول بحبي للسلفية الراشدة وتأثري برموزها، وهو ما لا أقول عادة – بحكم كوني أحب المسلمين جميعًا، وأتعامل معهم جميعًا؛ إذا كانوا في إطار أهل السنة والجماعة، وبحكم كوني أكره اللافتات وأرفضها؛ لأنها ما زادت العمل الإسلامي إلا انقسامًـا على انقسام، ومشاكل بعد مشاكل، وبحكم كون المشايخ العظام الذين شرفني الله تعالى بالجلوس إليهم –بعد دراستي في الأزهر الشريف؛ من أمثال المختار الشنقيطي والجزائري وعبد المحسن العباد ومحمد الوائلي والغنيمان ومحمود ميرة وغيرهم، وهم من علماء السلفية المعاصرة – علموني منهجا رشيدًا سديدًا أرى الكثيرين يتنكبونه؛ رغم ضخامة دعواهم السلفية، واحتكارهم بلسان الحال إياها! ثم كانت القراءات، والتطبيق، والممارسة الدعوية الطويلة والمتنوعة، تتويجًا لما تعلمته منهم رضي الله عنهم، وجزاهم عنا ألف خير.

 وأحمد الله تعالى على ما علم وأكرم وهدى!

ما هي السلفية؟

  • هل هي هذا الغول الغبي المنفر الذي يصوره الإعلام العميل الجريء المأجور؟
  • هل هي مجموعة مخترقة تمثل خليطًا من سليمي الطوايا، أغبياء التدين، قليلي الفقه، طوال اللسان، عالي الأصوات، مع مشبوهين، وموجهين مدسوسين؟
  • هل هي مجموعة شكلية محدودة الأفق، تعنى بسنن قليلة ظاهرة، وعلوم قليلة من علوم الآلة في مجملها، بعيدة عن المقاصدية، ومعرفة الفقه، وقراءة الواقع؟
  • هل هي ظاهرية جديدة كما أسماهم بعض علمائنا؟
  • هل هي مجموعة من المعوقين فكريًّا، الذين يعيشون إسلامًا خارج العصر، وخارج المنطق كما نرى عند عدد ليس بالقليل، ممن يدعون الانتماء لها، خصوصًا من فضحتهم الأحداث، وأثبتت أنهم –إن أحسنا الظن– ليسوا من السلفية في شيء، وليسوا من الفقه والعقل في شيء، ولا من حسن تقدير الأمور في شيء؟
  • هل هي لافتة رفعها بعض التكفيريين والمبدعين، الذين اجترؤوا على أعلام الأمة من (سلفها) وعلى كثير من رموز العمل الإسلامي المعاصرين، فتركوهم بين مخوَّن ومكفَّر، ومفسَّقٍ ومبدَّع، وجاهل لا يعلم ما يعلمونه!؟

 ربما كانت السلفية المعاصرة هي هذه كلها أو بعضها، لكن السلفية الحقة -في فهمي القاصر- لا يمكن أن تكن أيًّا من هذه المفاهيم المنقوصة أو الموصومة!

 بل هي منهج علمي وعملي، يترسم سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسادات القرون الفاضلة، وعلماء الأمة المرضيين، في الاعتقاد، والتعبد، وفي مناهج التعلم، والسلوك، والبلاغ، وإدارة الدنيا.

     فهي تُعنى بمصادر العلم الشرعي/ ووسائل تلقيها/ ومناهج تطبيقها/ وإبلاغها!

     وتتحرى اتباع، وتطبيق، ما يتلقاه المرء من علم السلف، وسلوكهم واقعًا حيًّا، ونمطًا سلوكيًّا!

     وتجتهد في تنزيل هذه القواعد على الواقع المعيش، ما وسعها التطبيق، وتفكر لعصرها، وتستشرف مستقبلها، على ضوء قواعد شرعية رضية!

 ولهذا المنهج علماء مرتضون، طيب الله -في الجملة- سيرهم، وزرع في الأرض حبهم كالشنقيطيَّين، وابن باز، وابن عثيمين، وبكر أبو زيد، والعباد، والجزائري، والألباني، وعبد الرحمن الوكيل، وأحمد شاكر، والفقي، وجميل غازي، وصفوت نور الدين، وبعض رموز السلفية العلمية من الجيل التالي، وإن لم يبتعد عنهم عدد من الرموز الشامخة الأخرى!

مساحات الزمان الثلاث:

 وإذا كانت مساحات الزمان ثلاثًا: هي الماضي والحاضر والمستقبل، فإن المسلم يعيش هذه المساحات كلها في آنٍ واحد، لا يستطيع أن يتجاهل إحداها، وإلا كان أداؤه منقوصًا مبتورًا:

     فهو يعيش الماضي، حلوه ومره، بتمثلِه هديَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والراشدين وسادات القرون الأولى؛ يستلهم سيرهم، ويتفهم منهجهم، ويستوعب طرائقهم، ويفيد من مناهجهم، تنزيلا على واقعه، وقياسًا في مفاهيمه.

ولا يحق لأحد –كائنًا من كان– أن يقول إنه لا صلة له بهؤلاء، وإنهم عصر ونحن عصر، وإن هداهم لا يصلح لنا، فهذا مثله كمثل الذي يزعم أنه جاء إلى الدنيا طفرة، بلا أب ولا أم ولا جدود، وليس فيه من جينات أحد ولا ملامحه شيء!

وهل ذلك معقول أو مقبول؟

     وهو يعيش الحاضر بوعي وتوازن، لا يجعله مساحة مبتورة عن الماضي والمستقبل، بل يأخذ من ماضيه لحاضره، ويعطي من حاضره لمستقبله: لا على طريقة الأبيقوريين:

لا تشغل البال بـماضي الزمان        ولا بآتي العـيش قبل الأوان

واغنم من الحاضـر لذاتــه     فليس في طـبع الليالي الأمان

 لذلك فإن من لا يعيش عصره بعين مفتوحة، وقلب يقظان، ووعي مستبصر لا يمكن أن يكون من جملة السلفيين الوعاة:

o      أولم يُعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار الروم وفارس؟

o      أولم يعرف صلى الله عليه وسلم عقليات وعقائد وسلوك اليهود والنصارى والمجوس والصابئة والفراعين في عصره، ويحدث أمته عنهم!؟

o      ألم يكتب إلى الرسل والملوك، ويستنبط أساليب حربية من الفرس، ويستحدث أساليب في التجارة، ويستقبل الوفود من هنا وهناك، ويكلم كل أحد بما يفهم؟

o      ألم يرسل زيد بن ثابت رضي الله عنه ليتعلم لسان يهود، والسريانية لسان النصارى ليسهل عليه التحاور معهم؟

o      ألم يذهب إلى الأسواق، ويعرف طباع الناس، ويعامل المشركين والمنافقين ومسلمة الفتح والمؤلفة قلوبهم؛ كلا بحسبه؟

 فلماذا غفلتنا عن عصرنا ونوازله وهمومه!؟ ثم أليست هذه هي السلفية الحقة؟!

     وهو كذلك يفكر في المستقبل القريب والبعيد، بكثير من الحرص، والوعي، وحسن الاستشراف: يفكر في بناء مدعوين وأجيال مسلمة، من الخلَف العدول الذين يحملون هذا الدين لمن بعدهم، ينفون ويذبون، ويسددون ويقاربون، ويصبرون ويصابرون..

 كما يخطط لمستقبله في الجنة؛ ما استطاع إلى ذلك سبيلًا!

o      ألم يتحدث عليه الصلاة والسلام مع أمته عن المستقبل؟ (أوشك إذا طالت بك مدة/ سيكون بعدي أقوام/ إنكم سترون من بعدي/ أنت منهم/…….؟

o      ألم يتحدث عن الفتن والملاحم وأشراط الساعة وما سيكون في آخر الزمان؟

o      ألم يسأله أصحابه رضي الله عنهم: فما تأمرنا يا رسول الله؟

o      ثم ألم يفكر عمر رضي الله عنه -بفقهه ووعيه الكبير- في أجيال الأمة اللاحقة في مسائل الوقف وغيرها!؟

o      ألم يرفض الإمام مالك رضي الله عنه فرض مذهبه على الأمة احتياطًا لمستقبلها؟

o      ألم يتكلم الأصوليون عن فضل الاختلاف، وفقه المقاصد، وكون ذلك رحمة للعالمين!؟

o      ألم يتحدث فقهاؤنا الذين وصمهم القاصرون بـ (الأرأيتيين) عن مسائل لم تقع، وقدموا لها حلولًا فقهية، واجتهدوا لها، وقاسوا، ونبهوا!؟

 هذه مساحات الزمان الثلاث في الوعي السلفي النبيه، لا يقفز على إحداها، ولا يهملها، ولا يتجاهلها، وإلا كان سلفيًّا مغشوشًا، كهؤلاء العائرين المتشدقين!

 والعناية بها سيما السلفي الصحيح، والفقيه المستقيم، والإسلامي الحصيف، والداعية الموفق، والخادم لدينه وأمته؛ بغض النظر عن لافتته وعنوانه وانتمائه!

  • فإذا لقيتُ تائهًا يقول لي دعوا عنكم الماضي، فإنه قد انتهت صلاحيته – كما يفعل قطاع كبير من المنبهرين – لقلتها واضحة بلقاء:

 إن الذي يتنكر لماضيه هو (اللقيط الملتقط) ونحن خير أمة أخرجت للناس، نفخر بديننا ومواريثنا، وعطاءاتنا، ولو كره المذؤوبون المنبطحون!

  • وإذا جاء من يقطعني عن الحاضر، وعن فتح عينيّ على اتساعهما لأدرك ما يدور، وما يخطط، وما يُكاد، ويعيب علي أني أحلل وأستخلص – من أولئك النفر العاكفين على ذواتهم، الجاهلين المستجهلين، الذين لا يدرون ما الدين، وما الدعوة – لقلت له: إنك لا تدري ما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ما سنته؛ فارجع إليها وتعلم، ثم تكلم!
  • وإذا قطعني أحد عن مستقبل الأمة، واستشراف حال الدعوة، والتخطيط للإسلام والمسلمين في المشارق والمغارب، والعمل إلى ما بعد الحياة الدنيا، فإنه سيكون ممن يحرضني على خيانة نفسي وديني وأمتي وآخرتي!

حتى بوش سلفي!

 وإذا كانت السلفية -بمعنى الرجوع للماضي، والامتياح من مناهله- قد تحولت عندنا إلى كلمة متهمة، فإنها عند الآخرين مصدر فخر واعتزاز، فكل الناس سلفيون، شاؤوا أم أبوا؛ إلا اللقطاء أبناء الحرام…

 لكن سلف بعضهم أبو بكر وعمر والبخاري!

 وبعضهم يتخذ سلفه من أمثال فرعون وسقراط وفيثاغورث، وشكسبير ودانتي، ونابليون ومكيافيللي، يباهون بذلك ولا يستنكفون!

     وإنك لواجد لأناس ممن تآمروا على الأمة: ريجان وبوش، وكارتر، وديك تشيني، وبلير وميلوسوفيتش، وناتانياهو، سبحًا طويلًا في السلفية الإنجيلية!

     وواجد عند (الخواجات، والمُتخَوْجِنين) تعظيمًا هائلًا للإغريق والرومان، والعوائد والأعراف الأنجلو سكسونية، ولرموز التنصير الضخمة مثل فرديناند، وإيزابيلا، وكابتن كوك، وريمون لول، والبابا أوربان، والصليبي البغيض مارتن لوثر، والقديس لويس، وغيرهم!

     وواجد عند شارون ورهطه سلفية صهيونية تلمودية هائلة، يستحيون من خلالها أساطيرهم، وأباطيلهم، وسخافات تلمودهم، ومواضعات أحبارهم!

     حتى العرب -الذين باتوا يكرهون هذه اللفظة- صاروا يصنعون لهم سلفًا غريـبين عجيبين:

o      فمِن فخورٍ منبهر بحورس وست ونفرتاري!

o      ومن مباهٍ بجلجامش وعشتار وإينال!

o      ومن باحث عن وشيجة تربطه بالأسود العنسي وسجاح!

o      ومن تائه يحتفل بسينت باتريك، وسينت فالانتاين!

o      ومن متعلق بوهم الزنوجة، أو القبوطة، أو البربرية الأمازيغية، أو الكنعانية الوثنية!

 ويا لتعاسة التائهين!

 فما لهم يستكثرون عليّ أن أتباهى بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه؟

 ما لهم يلومونني على حب الزهري والبخاري، والليث ومالك، وابن تيمية وتلاميذه؟ وأي الفريفين خير؟

 وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات!

يليه المقال الثاني إن شاء الله تعالى، فأرجو المتابعة شاكرًا ممتنًّا!

Please follow and like us:
د. عبد السلام البسيوني
باحث وداعية
قناة جريدة الأمة على يوتيوب