الأحد مايو 19, 2024
بحوث ودراسات

د. عبد السلام البسيوني يكتب: السلفية (3).. كارثة حَنْـبَلة الإسلام أو أزْهَرَتُه!

أزعم -ومزاعمي كثيرة للأسف- أن الإمام العظيم محمد بن إسماعيل البخاري لم يصر بهذه القامة من فراغ، فحين تقرأ أيها الحبيب سيرته العلمية فستعجب أن الإمام (وهو من سلفنا، صحيح؟) قرأ -فقط- على ألف وثمانين شيخًا! ليس فيهم إلا صاحب حديث، كما في سير أعلام النبلاء (12/395)!

 مرة ثانية: على ألف وثمانين شيخًا!

 داخ، وطاف، وعانى، وحصّل، ثم تمثل ذلك كله رحيقًا طاهرًا، أنتج منه كتبه العظيمة، وأعلاها الصحيح!

 وأزعم أن الله تعالى أنعم على الأمة بجملة من الأئمة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؛ فأطاب ذكرهم، وأبقى علمهم، وأدام فضلهم! وجعلهم سلفًا ومثلًا لمن بعدهم؛ في الخير والرشاد!

 والغريب أنهم خولفوا كثييييرًا ورضوا، وما اشتكوا ولا عارضوا، وأن أول من خالفهم تلاميذهم المباشرون، ألصقُ الناسِ بهم، ولم تكن مخالفتهم في مسألة أو مسألتين أو عشر، بل ربما في أصول التفكير، وفي مئات المسائل، حتى كون التلميذ مدرسة مستقلة عن الشيخ، يتفق معه فيها في الكليات والأصول الثوابت، ويخالفه في كثير من الفروع!

  • كان أبو حنيفة الإمام الأعظم وشيخ الأئمة رضي الله عنهم، صاحب مدرسة فقهية سامقة –ولا يزال- وكان قد اختط لنفسه منهجه في قواعد النظر والفقه، ارتضه الأمة وتلقته بالقبول!
  • وتتلمذ عليه مالك بن أنس -رضي الله عنهم- فخالفه في مئات المسائل، ورسم

 لنفسه منهجًا، ارتضه الأمة بعده، وتلقته بالقبول، ولم يغضب من الإمام!

  • وتتلمذ الشافعي مباشرة على مالك، وتضلع من علمه، ثم برع في فقهه، وأثل علومًا غير مسبوقة، مخالفًا أستاذه مالكًا في مئات المسائل، ورسم لنفسه منهجًا، ارتضه الأمة بعده، وتلقته بالقبول، ورضي بذلك الإمام!
  • وتتلمذ الإمام أحمد مباشرة على الشافعي، وتضلع من علمه، ثم برع في فقهه، واجتهد لنفسه، مخالفًا أستاذه الشافعي في مئات المسائل، ورسم لنفسه منهجًا، ارتضه الأمة بعده، وتلقته بالقبول! وأثنى عليه الإمام! رضي الله عنهم أجمعين!
  • بل حتى داخل المذهب الواحد، كنت تجد آراء لتلاميذ الإمام مخالفة لرأيه -في حياته، وتحت عينيه- وهو راضٍ لا ينكر، ولا يضيق!

 وقد تعلمنا هذا في الأزهر! فحين كنت أدرس المذهب الحنفي؛ من أول الصف الأول الإعدادي، كانوا يعلموننا؛ بجانب رأي الإمام واختياره، آراء تلاميذه: أبي يوسف، ومحمد ابن الحسن، وزفر بن الهذيل، وحماد! دون أن نجد في الاختلاف إشكالًا ولا انزعاجًا!

وكان كلهم يثني على كلهم:

     فهاهو سيدي الإمام مالك بن أنس، يُسأل عن شيخه المباشر الإمام أبو حنيفة، فيقول:

     رأيت رجلًا؛ لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا، لقام بحجته!

     وهاهو سيدي الإمام الشافعي يقول: الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه!

     وهاهو سيدي عبد الله بن المبارك يقول عنه: أصاب من العلم اللباب، ووصل فيه إلى أقصى مداه، كان يستبطن المسائل، ويستكنه كنهها، ويتعرف أصولها، ويبني عليها.

     وهاهو الإمام الشافعي يقول عن شيخه المباشر مالك:

     إذا جاءك الحديث عن مالك فشدَّ به يديك!

     إذا جاء الخبر، فمالك النجم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم!

     مالك بن أنس معلمي، وعنه أخذت العلم!

     وقال عنه الإمام أحمد بن حنبل: مالك بن أنس أحسن حديثًا عن الزهري من ابن

 عيينة. وفي سعة صدره لقبول الآخر!

     وقال عن نفسه: قال لي المهدي: يا أبا عبد الله ضع لي كتابًا أحمل الأمة عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين: أما هذا الصقع -وأشار إلى المغرب فقد كفيتكه- وأما الشام: ففيهم الرجل الذي علمتُه؛ يعني الأوزاعي. وأما أهل العراق فهم أهل العراق!

     ولما حجّ أبو جعفر المنصور دعا الإمام مالكًا، وقال له: إني عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها -ويعني (الموطأ)- فتُنسخ نُسَخًا، ثم أبعث بها إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدّوها إلى غيرها، وَيَدعُوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث؛ فإني رأيت أصل هذا العلم رواية أهل المدينة وعلمهم!

 فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به، ودانوا به؛ من اختلاف أصحاب رسول الله وغيرهم، وإنّ ردهم إلى ما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم!

فقال: لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرت به.

     وعلى الإمام الشافعي أثنى الإمام أحمد بن حنبل، فقال:

     ما أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة، إلاّ وللشافعي عليه منة!

     ما صلّيت صلاة منذ أربعين سنة، إلا وأنا أدعو فيها للشافعي!

     ولم يكن الشافعي يعمل للمظاهر، والتفاخر، والتكاثر العلمي البغيض، بل قال: وددت أن الخلق يعلمون ما في هذه الكتب على ألاَّ ينسبوا إليَّ منها شيئًا!

     وقال لتلميذه الإمام أحمد بن حنبل: أنت أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفيًّا كان أو مصريًّا أو شاميًّا!

     وجاء في سير أعلام النبلاء عن الإمام الحافظ أبي موسى يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، أحد أصحاب الإمام الشافعي: ما رأيت أحدًا أعقل من الإمام الشافعي! ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ثم لقيني فأخذ بيدي، وقال: يا أبا موسى: ألا يستقيم أن نكون إخوانًا؛ وإن لم نتفق في مسألة؟!

     ومن عجيب ثنائه على تلميذه أحمد: ما روى المزني أنه قال: ثلاثة من عجائب

 الزمان: عربي لا يعرِبُ كلمه، وهو أبو ثور! وأعجمي لا يخطئ في كلمه، وهو الحسن الزعفراني! وصغير كلما قال شيئًا صدقه الكبار، وهو أحمد بن حنبل!

     وعن أحمد رحمه الله قال قرينه ومعاصره القاسم بن سلاّم:

     انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر ابن شيبة، وأحمد أفقههم فيه!

     ويقول فيه: ما رأيت رجلًا أعلم بالسنة منه!

     وقال فيه يحيى بن معين: والله لا نقوى على ما يقوى عليه أحمد، ولا على طريقة أحمد (أقوال الأئمة في بعضهم من بحث: أدب الخلاف، لعبد الرحمن البراك)!

 وهذه الأقوال مما فاض وانتشر في كتب أهل العلم، وفيها غنية عن الكلام في هذه النقطة!

     ولعل ما يعمق أن أكثر الفقه والتطبيق اخلاف: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مدارس في النظر: (فعمر -في فقهه وفكره وأدائه غير الصديق، غير عثمان، غير علي! وابن مسعود غير ابن عباس، غير أبي ذر، غير حسان، غير خالد بن الوليد، غير أبي هريرة، غير ابن عمر! وكلهم مهديون مزكَّون، رضي الله عنهم ورضوا عنه!

     ولم يكن الاختلاف في المدارس الفقهية وحدها، بل حتى على مستوى التفسير قامت مدارس شتى: (مدرسة الأثر، ومدرسة الرأي، ومدرسة الأحكام، وتفسير القرآن بالقرآن! والمدارس الإشارية، واللغوية!

     وفي زماننا جد التوسع في التفسير اللغوي، ومدرسة الإعجاز، والتفسير الاستشرافي في الظلال، والتفسير الحضاري، وترجمات المعاني، والله أعلم بما سيجد!

     وحتى في العقيدة، حصل الاختلاف؛ فكانت المدرسة السلفية، والأشعرية، والماتريدية، ومدارس التزكية (التصوف غير المتطرف والغالي، الذي يدعي بعضهم فيها أن وِرد شيخه أفضل من قراءة القرآن ألف مرة، وأن زيارة ضريح الرومي أفضل من الحج 7770 مرة)!

     بل وحتى في اللغة العربية، ظهر الكوفيون والبصريون، وتأثير أهل البداوة الذين لم

 تكن العجمة قد صحفت ألسنتهم؛ بجانب اللسانيات المعاصرة!

 وفي غياب أثر الجلوس إلى الشيوخ يلفت نظري أن من سلفيي اليوم من يتلقى العلم بشكل ناقص مبتور، بعد أن يجلس إلى شيخ بضعة أشهر –أو حتى بضع سنين– ثم إذا هو يقول في ازدهاء:

–       قال أبو فلان، فلان بن فلان بن فلان، السلفي، الأثري، المدني، الزفتاوي، مد الله ظله العالي!

–       وإذا به بعدُ يقول في مجالسه الاستعراضية: حدثنا شيخنا/ شهدت شيخنا/ سارَّني شيخي/ بسندنا! مذهبي في هذه المسألة كذا، ورأيي في هذا الأمر مذا! يا سلام!

 ووالله لقد سمعتها غير مرة!

 وأحيانًا يكون (شيخه) هذا من أقرانه في السن، والمستوى، وضحالة القاع، وعتامة الرؤية!

 مع أن العقل يقتضي أن يجلس أخونا (العنين) على مائة أو خمسمائة (شيخ) أو أكثر، في علوم وفنون شتى- بحسب سيلان واديه– ليسمع ويرى ويتعلم، لكنها العجلة والادعاء، خصوصًا إذا لم يكن الأخ الكريم –من بداياته- مؤسَّسًا أصوليًّـا، وشموليًّا مستوعبًا في تلقيه!

 وتراه في اللغة لُحَنة، وفي حفظ القرآن مبتدئًا، وعن معرفة قواعد الفقه والأصول بعيدًا، ومن إدراك مناطات الاختلاف في المسائل ضحلًا، ويقول: رأيي!

 حتى إن فسلًا خرج قبل نحو شهر، يعلن أنه يريد أن ينشئ مذهبًا فقهيًّا جديدًا!

 ومن مضار الأخ الذي جلس إلى شيخ أو بضعة شيوخ، أنه لا يرى إلا بعين شيخه وحده، مع أن سيدي مالك بن أنس رضي الله عنه (الإمام العظيم) رفض أن يلزَم المسلمون برأيه، لما طلب أمير المؤمنين ذلك منه (لأن الصحابة تفرقوا في الأمصار، ونقلوا معهم العلم هنا وهناك)!

 ومن مضاره أيضًا حصر الإسلام كله في عقل واحد أو اثنين أو خمسة، أو في إمام واحد –أيًّـا كان، غير رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهذا غاية في الغباء؛ لأن النتيجة –ببساطة– تكون هكذا:

 إذا جاءت أحدهم الفتوى من الشيخ فلان، أو صدر رأي من الأخ علان كانت بردًا وسلامًا، وإذا جاء الكلام من غيرهما كان (زفتًا وسخامًا)؛ لأن الآخرين في ظنه -ببساطة – متهمون مغموصون، يغلب عليهم ضيق الأفق، والرداءة والخبث والتخلف والكيد للإسلام!

 أهذا معقول، لقد رأيت أقوامًا إذا جاءتهم الفتوى من شيخي العالم العظيم ابن باز (عليه رحمات الله ورضوانه) عظموها ورفعوها، وإذا جاءتهم من غيره سخروا وتنقصوا!

 ورأيت غيرهم إذا جاءتهم الفتوى من شيخي العالم العظيم القرضاوي جعلوها راية ومنارًا، وإذا جاءت من غيره استسخفوها وازدروها، وجعلوها عارًا وشنارًا!

 رأيت من يقول –ساخرًا- ابن جاز، ومن يقول: الأرضاوي!

 من يقول: عن هذا: أعمى البصر والبصيرة، ومن يقول عن ذاك: المرتد الضال المبتدع!

 ورأيت – والله – من يقول: الألباني (حمار في الحديث)!

 ومن يقول (مثلما كانت تقول المعتزلة في الماضي): نحن أهل العدل والتوحيد، وغيرنا جهال جامدون!

 ومن يسمون سلفيي العقيدة: البلاكفة، والحمير الموكفة! (البلاكفة: الذين يقولون: استوى بلاكيف)!

 ما هذا السخف؟! أف والله وأف.. وأف!

 أليس هذا إفكًا، وجهالة، واستباحة للأعراض المسمومة، وسوء منهج؟

 ثم أليس هذا تحجيًرا للإسلام وتنميطًا للفكر؟

 كيف أحصر الإسلام المعاصر في الألباني وابن باز وابن عثيمين، أو القرضاوي والغزالي وأبي شقة، أو شيخ الأزهر أو إمام الحرم، في السلفيين أو الإخوان، في الزيتونة أو العدل والإحسان!؟

 كيف أُحنبل الإسلام أو أُؤَخْوِنه، أو أؤزهره، أو أُسَلِّفه، أو أصوِّفه.. وبس؟

 كيف أنمِّط الإسلام، وأجعله دينًا طائفيًّا، يُقصي فيه كل فريق إخوانه، أو يلغيهم، أو

 يحاربهم، ويحاربهم مع الشيطان، ويدع عنه جبهات الحرب المشتركة، التي تتربص بالإسلام شريعة، وعقيدة، وقيمًا، وحضارة، وماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا؟

 هذا هو الواقع، للأسف الشديد، عند كثيرين من الطيبين!

 ألم يقم العلم الإسلامي على مدارس، وأئمة، واختلاف ثري معجب، هو مصدر فخار، ويسر، وتنوع، وعظمة، كما مر؟

 ثم ألم يشجع منهج التحجير الغبي العائر على تحقير السلف الصالحين، والاجتراء عليهم، وذم السلفية، وتطاول كثيرين من مختلف الاتجاه بإطلاق مصطلحات مثل: الإسلام السعودي، والفقه البدوي، والظاهرية الجديدة، والظلامية، والتخلف!؟

 ألم يؤد إلى إفراز عقول إقصائية، ومناهج طائفية تعصبية، واستباحة لأعراض المؤمنين، وتسفيه لعلمائهم؟

     يا قومنا: ليست السعودية الممثل الشرعي والوحيد للإسلام، وإن زعم بعضهم ذلك!

     وليس الأزهر الممثل الشرعي والوحيد للإسلام، وإن زعم بعضهم ذلك!

     وليس التيار السلفي (بشكله الطائفي الجديد) الممثل الشرعي والوحيد للإسلام، وإن زعم بعضهم ذلك!

     وليس التيار الإخواني الممثل الشرعي والوحيد للإسلام، وإن زعم بعضهم ذلك!

     وليست الصوفية (بشكلها الطائفي الغالي المغرق في الخرافة) الممثل الشرعي والوحيد للإسلام، وإن زعم بعضهم ذلك!

     وليست تيارات الإسلام الرسمي – بوزراء أوقافها ومفتيها وسدنتها- الممثل الشرعي والوحيد للإسلام، وإن زعمت ذلك!

     وليست الاتحادات العلمائية التي انتخبها العلماء الأصلاء –فضًلا عن اتحادات الضرار- ممثلة شرعية وحيدة، وإن زعمت ذلك، وحاول فرضه بقوة السلطان وبهتان الإعلام!

 بل إن الإسلام: ما استقام على الطريقة -من هذ كله- وإن رغم الطائفيون!

 يا قومنا، كونوا كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانوا صادقين مخلصين، مؤْثرين عاذرين، متفقين مختلفين، منشئين مبدعين، مبادرين مجتهدين! ولسان حالهم ومقالهم يهتف دومًا: (ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف، رحيم) الحشر:10!

 لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

Please follow and like us:
د. عبد السلام البسيوني
باحث وداعية
قناة جريدة الأمة على يوتيوب