الجمعة سبتمبر 20, 2024
بحوث ودراسات

د. عبد السلام البسيوني يكتب: بين السلفية البسيطة، والنخبة «الأليطة»

أستاذية التنصل والاستعلاء والتلاوم

للعامة حكمتهم الكامنة فيما وراء الألفاظ والكنايات العامية من إيحاءات ورموز ساخرة، تعكس نظرة واعية، وإن كانت تكتفي بالسخرية ولا تزيد.

 ومن الألفاظ الشعبية اللاذعة التي تحمل شحنة لا بأس بها من الوخز والتعريض: لفظ (الأليط) الذي يطلقه جمهور العامة على الشخص المنتفخ كبرًا، المرتفع صدرًا، المَعْنِيّ بملابسه أكثر من اعتنائه بمضمونه وحقيقته:

 فهم يقولون: (فلان أليط، وهم أُلَطَة -على وزن هُمزة ولُمزة- ومصدرها العامي: (أَلاطة)، يربطون ذلك كله بجذر شعبي يوصف به الشخص الآدر ذي (الأليطة)!

 والنخبة -كما وردت بالمعاجم- “وبستر 440/1994 – لونجمان 415/1993” هي مجموعة أو جزء من مجموعة مختارة، تكون أكثر تميزًا –عرقيًّا، أو وظيفيًّا، أو اجتماعيًّـا- قياسًا بحجمها!

روافد الانتخاب:

 وهي -في الواقع الذي نراه- قد تكون انتسابًا أسريًّا، كالأتراك وأسرة محمد علي -أيام زمان- وبعض الأسر حاليًّا، من أولئك الذين يصعب أن يتزوجوا من غيرهم، أو يخالطوهم بسهولة؛ إحساسًا بالتميز والنخبوية! وكم نساء (عنّسن) وأكلن أنفسهن قهرًا؛ لأنهن لا يستطعن الزواج إلا من مستوًى معين، من أسر معينة، لا يتقدم أبناؤها للزواج، فتقضي إحداهن عمرها فريسة قهر شديد، أو فساد مريد!

 وقد تكون نخبة اصطناعية، افتعلتها مجموعة فكرية كاليساريين –قديمًا- الذين اصطفّوا الآن إلى جهة اليمين، وصاروا ملكيين أكثر من فخامته، ومساترة ربما أكثر من المستر (سام) نفسه.

 وقد تكون مجموعة منسوبة لمصدر ثقافي مشترك كخريجي أوكسفورد، أو كمبردج، أو الجامعة الأمريكية في القاهرة، التي أخرجت نخبة تحكمت كثيرًا في المسار الفكري والسياسي العربي، في النصف الأخير من القرن العشرين، منها: قسطنطين زريق، وجورج حبش، وليلى شرف، ونديم البَيْطَار، وأحمد الخطيب، ووديع حداد، وهاني الهندي، ناهيك عن الموالين اللصيقين كسعد الدين إبراهيم، وسعيد العشماوي، وغيرهما من الإخوة المتعاونين.

 وقد تكون النخبة من رؤوس المنتسبين لحزب سياسي، يضع نفسه فوق الأمة، وفوق الأحزاب، وفوق التاريخ والجغرافيا، ولافتات الأمم المتحدة، والمنطق، والعقل، والشرع قبل هذا كله، كما فعل منتسبو الحزب الوطني الإقصائي، وقبله الاتحاد الإشخرائي، الذي دمر مصر كلها، وخربها بمنتهى الإصرار والترصد.

 وقد تكون من السالكين في منظومة وظيفية ذات خصوصية؛ كأساتذة الجامعة الذين أتمنى أن يكتب عنهم رجل منهم، فيه نوع إنصاف من النفس، وإحقاق للحق؛ بعد أن تسلل إليهم من لا يعرف العربية، ومن لا يفهم أبعد من موضوع رسالته، ومن جعلها وراثية ملكية لأبنائه، ولو كانوا (أبيض يا صيني) ومن جعلها منصة يتفرعن بها على التلاميذ الغلابة، قائلًا مقالة فرعون، ومن يبيع الشهادات، ويكتب الرسائل العلمية للطلاب مقابل مبالغ كبيرة وصغيرة، ومن اشتغل مع الأمن، وصار عينًا لمخبر يحمل دبلونصنايع، لينال الرضا السامي، ويبقى على كرسيه الزائف!

وقد تكون جماعة دينية إقصائية منفوخة، ترى نفسها الأعلم والأسلم والأتقى والأنقى، وتنظرلغيرها من المسلمين العاملين للإسلام، أو المشغولين بهموم الحياة، نظرة استعلاء، هي مزاج من الشفقة (والقنعرة) والإحساس بالزعامة، والرغبة في فرض الذات، وتُدخل الآخرين جهنم من أوسع أبوابها، أو على الأقل تراهم يستحقون ذلك!

نظرة للوراء:

وقد تبلورت في مصر منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين طائفة وصفت نفسها -أو وصفها الإعلام- بأنها الصفوة أو النخبة Elite، ولعل العامة أخذوا منها لفظ: (أليط)، إن لم يكونوا قد اشتقوه من وصفهم للآدر، الذي تثقله أدرته، فيقوس ظهره للوراء، ويرفع رأسه لأعلى، وكأنما يمشي مستكبرًا مزهوًا، بشكله المضحك، وتقوسه المتكلف!

وهؤلاء الناس (الإيليت) اشتهروا بأنهم يحملون هَمّ الثقافة والأرستقراطية -وإن خرج كثير منهم من أعماق الريف، وأَباعدِ المناشي والكفور والنجوع- فصار أحدهم يتهم أهله في العزبة التي خرج منها بالتخلف، ويتأفف منهم، ويحتقرهم!

وبات أعظم طموح هذا المنسلخ أن يجالس أهل الصالونات من ذوي الملابس الرسمية، وأن يصب

نفسه في قوالب السادة الكبار “الفرنسيس والإنجليز وهوانم وبكوات الأسرة الحاكمة آنذاك” فهويتشدق بألفاظهم، ويحاول أن يمشي مشيتهم، ويلبَس لباسهم، ليصير كالغراب الذي هجر مشيته كي يقلد مشية القَطَاة، فنسي هذه، وعجز عن تلك.

وقد سخر العبقري عبد الله النديم رحمه الله من أهل الألاطة في العدد الأول من (التنكيت والتبكيت) من خلال شخصية “مسيوزعيط” الذي عاد من أوربا مصابًا بالصّعَر من عوائد أهله ولغتهم وأحوالهم، ونسي اسم البصل الذي تربى على “فحوله” فأخذ يحدث أمه الفلاحة البسيطة عن ذلك البتاع الذي نسي اسمه:

– البتاعدا يا مامي!

–       اسمه إيه يا بني؟ الفلفل؟

–       نو، نو، الـ…..، دي، البتاع اللي ينزرع!

–       الغلة يا بني؟

–       نو، نو، دي اللي يبقى له راس في الأرض: أونيون.

–       والله يا بني ما فيه أونيون، دا لحم ببصل.

–       سِي سِي، بسل، بسل!

  • وعبر هذه النخبة ابتلى الله مصر بما هي فيه من كوارث التخلف، والقهر، والفساد، والتراجع الحضاري، والانهزام النفسي، ونهب الخيرات، وموالاة العدو، وغيرها!
  • وعبر هذه النخبة ظهر من يؤيد الاحتلال الإنجليزي لمصر بقوة!
  • ومن كان يدعو للانتساب للغرب، كفرًا بالشرق، مخاصمة للجغرافيا والتاريخ والوطنية والواقع والدين والقيم والتاريخ!
  • ومن كان يلعن (سنسفيل) الإسلام والمسلمين.
  • وعبْرها ظهرت بواكير الدعوات المتمردة على الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة: الدعوة للعامية، والدعوة للفرعونية، والدعوة للعلمنة، واعتناق الغرب بعجره وبجره!
  • ثم تبلورت هذه النخبة بعد ذلك في قوم مغسولي الأدمغة والقلوب والتوجهات، استُزرعوا فيما

وراءالبحار، وعُرّضوا لعملية تلقين هائلة، عادوا بعدها نخبويين صفويين أليطين، يستنبتون في بلادناالشيوعية والإلحاد، أو العلمنة والحداثة والاغتراب، بدلًا من الأصالة، والرغبة في الانبعاث، ومقاومة السلبيات.

وإنك لواجد شيئًا كثيرًا من الأخبار والطُّرف والفجائع عن هذه النخبة “النرجسية” كثيرًا في مظانه، وهي ليست محور حديثي، بل إن لي حديثًا عن نخبة أخرى تعيش على الإسلام، وتظلمه، وتوهم نفسها والآخرين أنه بدونها لن يكون إسلام صحيح، ولا فكر قويم، ولا رؤية صائبة.

النخبة الحقـــة:

ونحن إذا تحدثنا عن الانتخاب المبني على جملة من المزايا الموجبة للتميز، لقلنا -دون تردد- إن أعلى النخب التي عرفها البشر هي نخبة “المصطفَيْن الأخيار” وعلى قمتهم سيد الأولين والآخرين محمد “المصطفى” عليه وعليهم صلوات الله وسلامه؛ فقد كانوا نخبة إيمانية وعقلية واجتماعية، انتخبها واختارها، وصنعها العليم الخبير سبحانه على عينه، واجتباها، وهداها إلى صراط مستقيم!

     وقد تحدث القرآن عن اصطفاء هذه النخبة في عشرة مواضع: منها قوله تعالى: (وإنّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ) ص: 47/ وقوله تعالى: (إنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ ونُوحًا وآلَ إبْرَاهِيمَ وآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ) آل عمران: 33، وغير ذلك.

     ووردت لفظة: (الاختيار) أيضًا؛ بمعنى الانتخاب للبشر المميزين -سبع مرات- مثل قوله تعالى: (واخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لّمِيقَاتِنَا) البقرة: 155/ وقوله تعالى: (وأَنَا اخْتَرْتُكَ، فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) طه: 13!

     كما ورد ما يفيد معنى الانتخاب والاصطفاء في السنة المشرفة، كقوله صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، بيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ -آدم فمن سواه- إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر) الترمذي، المناقب/3618 بسند حسن.

وقوله عليه الصلاة والسلام: (أُعطيت خمسًا لم يُعطهن أحد قبلي،. الحديث) البخاري 1/ 369، 37 – مسلم 521، النسائي 1/ 22.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم خيرالقبائل فجعلني في خير قبيلة، ثم خير البيوت فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسًا، وخيرهم نبيًّا) راجع المزيد في جامع الأصول 8/525 وما بعدها.

لذلك فإن الصفوة من الرسل والأنبياء هم سادة البشر الحقيقيون -وإن رغمت أنوف الذين انتقصوا منهم في “هوجة” الكتابات والقمامة الإعلامية الأخيرة- أرقهم قلوبًا، وأصفاهم نفوسًا، وأكثرهم مزايا، وأعلمهم برب البرايا سبحانه وتعالى.

ويلي هذه النخبة -التي يستحيل أن تُنَافَسَ- نخب من الحواريين وأتباع الأنبياء، الذين عزروهم، ونصروهم، وآثروهم على الأبناء والآباء والناس أجمعين.

ثم الإضاءات التاريخية لمجموعات من العلماء والأئمة، يلمعون في سماء الأمة عبر تاريخها الماضي والحاضر والمقبل.

وإذا كان بين هذه النخب من قاسم مشترك، فإنه العلم بالله تعالى، والرفق بالناس، وحب الخيروالحق، والانكسار والتواضع مع الخلق، فلا ترفّع، ولا استكبار، حتى إن ْكانت الجارية لتأخذ بيد سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطوف به المدينة ما يمتنع منها، وحتى إنه صلى الله عليه وسلم دعا أن يكون مع المساكين؛ فهم مادة الإسلام، وعصبه، يدخلون الجنة قبل غيرهم بكذا وكذا من السنين.

واقرأ عن مناقب أولئك الميامين في أبواب المناقب في كتب السنة كلها، وفي الاستيعاب، وأُسْد الغابة، وجامع الأصول، وأخلاق العلماء، وفي إعلام الموقّعين عن رب العالمين، وجامع ابن عبد البر، وسِيَر أعلام النبلاء وغيرها؛ تجد العجب العُجاب، عن تميز نخبنا التي نباهي بها؛ من المرسلين، والأصحاب والتابعين، والأئمة المرضيين، والعباد الربانيين، والمجاهدين المبرورين.

 من ملامح النخب الحقة:

ولعل من أعظم ما يميز الرجل كبير الهمة، راجح العقل، غزير العلم، أنه متواضع قريب لَيّن، تستطيع -بسهولة- أن تحادثه، وتؤاكله، وأن تجد منه طلاقة الوجه، وحلاوة اللسان! ولا ينبسط للكريم إلا الكريم، ولا يتواضع للناس إلا العظيم، ولا يبكي من أجل الناس إلا الرحيم!

أما اللئيم فهو غير ذلك، أما “النخبوي الكاذب المدّعي” أما الأليط المنفوخ الدعي، فهو غير ذلك:

 جلس النبي صلى الله عليه وسلم مع مستكبر يأكل بشماله، فلما قال له: كل بيمينك، ضرب عليه “عرق الهيافة”، والإحساس بالذات، فقال من طرف أنفه: لا أستطيع، فدعا عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا استطعت) فما رفعها إلى فيه!

وأحمق “نخبوي” ثانٍ يمر بمالك بن دينار، وحين رآه مالك معجبًا بنفسه قال له: رويدك يا هذا أن ينفجر فيك عرق، أو تطير كالبالون في الهواء!

فاستدار أخونا المنفوخ “وخنف” في عتو: ألا تعرف من أنا؟ مش عارف أنا مين!؟

فقال مالك: (بلى، أعرفك جيدًا: كنت نطفة مهينة مذرة، وتصير جيفة مدوّدة قذرة، وبين جنبيك العذرة)! فبُهت الذي انتفخ.

وقد يؤدي هذا الإحساس بالنخبوية “والعنطظة” إلى درجة إبليسية، تذكّرنا بغباء إبليس عليه لعائن الله، الذي أبى، واستكبر، وكان من الكافرين:

مرت امرأة لا تعرف الطريق جيدًا فسألت أحد المارة: يا عبد الله: كيف الطريق إلى مكان كذا؟ فقال لها في أبلسة نخبوية: أمثلي يكون من عبيد الله؟

وغبي نخبوي آخر خطب الناس بالبصرة فأحسن وأوجز، فنودي من نواحي المكان: (كثّر الله من أمثالك)، فقال وبئس ما قال: لقد كلفتم الله شططًا!

ولا أشك في أن هذه النخب؛ وإن ارتفعت في بعض السنين، لأنها أحسنت التسلق فإنها تنكشف، وتفتضح، ويُخرج الله -ثم التاريخ- من نَتَنها وعَفَنها ما كان خبيئًا.

ملامح النخبة الأليطة:

لكن ما يوجع قلبي، ولا يسيغه عقلي، هو أن روح الاستعلاء نشبت – حتى – في حلوق نخبة من نوع آخر:

     متكلفة؛ رغم حديثها عن البساطةَ

     مستكبرة؛ رغم دعواها التواضع.

     مِبهْوَقة؛ على الرغم من أن ذيولها كما يقال (رجعية)!

     تتحدث عن حرية التفكير؛ رغم كونها تصادر الآخرين، وتغمزهم، وتعزو أسباب تفكك الأمة، وانكسارها الحضاري، وتخلفها التقني، والفني، والكروي إلى هؤلاء (الآخرين)!

إنها نخبة من المفكرين، تعيش على العمل الإسلامي لكنها تترفّع عليه، وتضع نفسها فوقه جميعه:

وهي تمتاز بجملة ملامح تجعلها فصيلة مستقلة، ومن ملامحها:

** أن السادة فيها يتحلون – كما أشرت آنفًا- في نظرتهم إلى العمل الإسلامي بقدر لا بأس به من الاستعلاء والكبر، وينظرون إلى فرقه كلها تقريبًا بتشامخ و(قرف)، ويكادون يحكمون عليها بأنها جميعًا هالكة، وليس فيها خير، فاسدة يأكلها السوس، تراوح بين التشدد الخارجي، والتنطع السلفي، والنفاق القلبي، والتساهل التبليغي، والجهل الأزهري، والفقه الظاهري، والعته الحضاري، في حين يملك أحدهم -وحده- مفاتيح النجاة، وصواب الرؤية، وحسن الفهم. وربما كتبوا هذا صراحة في بعض آثارهم، وبشروا به في ندواتهم.

** وكتاباتهم تعكس هذا الاستعلاء، إذ يميلون إلى الإغراب والرمز والتقعر المفتعل، ويفتشون عن حوشي الألفاظ، ووحشي العبارات؛ على طريقة ذلك النحوي المتقعر، صاحب: أصَقَعَت العتاريف؟ زقفيلم/ فالجمل وعرة متكلفة، والمصطلحات عديمة الأصل والشرف، تعكس روح التفيهُق، وتملأ الشدقين جميعًا، لضخامتها وغرابتها، والتصاقها بالحلق والأسنان؛ يظنون أن هذا يضفي عليهم سيما الثقافة؛ ويسمهم بميسم نخبوي مهيب!

جُسْ خلال كتابات أحدهم، ولن تعدم سيلًا من الألفاظ من ماركة: الإسلام الإسكولاستيكي،

والمحمدية الأرثوذكسية،  والبطريركية الإسلامية، والاستلاب، والماضوية، والإسلاموية، والسلفوية، والديماغوغ (بالغَين) والاستبطان، والانشطار، والفعل، والأيض، والكهنوتية،  والغُثائية، والإقلاع، والتقعر، والتفلطح، وغير ذلك مما يجعل القارئ المحايد يجزم بأن سيدنا “المُسَقّف” إنما يكلم نفسه، إذ لن يقرأ هذه اللغة المتكبرة إلا هو نفسه وبقية السادة أعضاء نادي الألاطة؛ إن تواضعوا وقرؤوا!

وأدعوك قارئي إلى أن تمتّع نفسك بوليمة حداثية متكبرة على مائدة محمد أركون أو حسن أبو خشبة -مجتهد الزمان- ونصر أبو زيد، ومن يقلدهم من النخب الأليطة، لتَغْثَى نفسُك، ولتصل إلى يقين بأن هؤلاء الناس أحد اثنين: إما أنهم لم يفهموا شيئًا من الإسلام على الإطلاق، وإما أن العالم كله – قبلهم- لم يفهم شيئًا منه!

وأذكر أنني حضرت ندوة عن الثقافة في جامعة قطر، حضرها جمع من مدمني هذه العبارات اللزجة، واستمرت لثلاثة أيام، كنت خلالها أستغيث الله: ويلكم ماذا تقولون؟

وفي ختام الندوة قام رجل فلاح، مباشر، واضح، سهل العبارة، طبيعي، غير متكلف، اسمه يوسف القرضاوي، فتكلم بمفردات شديدة السهولة، شديدة الوضوح، شديدة الإقناع للعقل والقلب، فاندهشت، وقلت: سبحان الله هذا الرجل يحمل “ألِف دَال” وهم أيضا يحملون “الألف دال” وهو مفكر وهم مفكرون، وهو مختلف عنهم؛ فإما إنه دخيل على الندوة، وإما هم الدخلاء، لكنني وجدتهم في نهاية الندوة يصفقون له؛ على الرغم من أنه مسح كلامهم بأستيكة، وكان كالشمس تزيل الضباب، وتوضح الرؤية، وتهرب من ضوئها الأشباح!

** ومن ملامح هؤلاء أن علاقتهم بشباب العمل الإسلامي محدودة -إن لم تكن معدومة- وأزعم أن منهم من لم يجالس الشباب من سنين، فهو رجل متبتل في برجه العاجي، أو شرنقته النخبوية، دون نزول فعلي للساحة: فلا مسجد، ولا محاضرة، ولا درس، ويحزنون، لكنه في الصالون الثقافي المتلفز موجود، وفي الندوة ذات الفلاشات سباق، وفي ملتقى الجوائز جاهز، وفي السيميتر الصيفي في الجامعة الفلانية حاضر، وفي الكتاب المشترك (المريب كتّابه) متصدر!

** وبضاعتهم الرئيسية هي الكتابة الاستعلائية الأليطة، في حين تلح حاجة الجفاف الدعوي لعلماء دعاة، يرشّدون الاتجاهات، ويصححون المسيرة، ويصبرون على الزلات، ويكفكفون من الشباب غلواءهم، ويكبحون جموحهم، حتى لا نعود لنبكي سوء الحال، ونشتكي من تطرف الشباب الذين لا يعقلون، ولا يحترمون، ولا يقدرون!

فالتصويب الميداني، والمناصحة العملية مسألتان ضروريتان، حتى لا نكون كالذي يؤنب شخصًا في مجاعة؛ لأنه لا يأكل في طبق (كريستوفل) بالشوكة والسكين، والفوطة على صدره، بينما المسكين يتضور حالمًا بحفنة أرز، أو كسرة خبز، لا ببسكويت المحروسة (ماري أنطوانيت) ولا بمصطلحات اسم النبي حارسه أركون!

** وهذا الترفع والتحليق غير المبرر يجعلهم -في كثير من الأحيان- أقرب لرموز العلمنة والاغتراب واليسارية، فيتحدثون عنهم بمنتهى الرفق والرقة، والمداراة وهدوء الأعصاب، في حين يتحدثون بعصبية “وقرف” عن ممارسات الجامدين المتخلفين المتزمتين ممن ينتسبون للعمل الإسلامي المسكين!

لقد رأيت أستاذًا أليطا يرأس كرسي الثقافة الإسلامية في السوربون يلعن “أبو خاش” جارودي في حديثه عن الأساطير الصهيونية، ويرفع -في الوقت نفسه- من سلمان رشدي، ويعتبره مبدعًا جديرًا بالمساندة!

وقرأت لمن “يشمئنط” حين يسمع اسم ابن باز، في حين تتهلل أساريره عند ذكر الأسود العنسيوالسّهْرَوَرْدِي وأبي نواس!

وسمعت من يتهم ابن تيمية بالفساد في حين يمدح “أبا عشم” المجدد الصالح المصلح، الجريء – كأضرابه- على السلف وأطروحاتهم، الذين يتهمهم؛ بمنتهى الدبلوماسية “والمنهشية” واللذع الأفعواني المهذب!

** وهم مولعون جدًّا بالمؤتمرات، والجلسات النخبوية، مدمنون لهواية التوجيه والتقويم، والترشيد والتنظير والتأطير والـتجسير والتهبيل للعقل الإسلامي “الطايش”.

إنهم لامعون، مُنَشّون، معطرون، يتسابقون للحديث مع آخرين ممن لا يهمهم كثيرًا التعرف على الإسلام -وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم- بقدر ما يهمهم الحصول على تنازلات ممن يتحدثون

 باسم الإسلام.

** وهم غالبًا الممثلون للعقل الإسلامي، اشتروه وسجلوه في الشهر العقاري، فلن تفقدهم في كل مؤتمر، وكل ندوة، وكل محل فيه فلاشات ومانشيتات وكاميرات دوارة، وفضائيات وبرامج بث مباشر “كده وكده”.

** ومن ملامحهم التي تعكس تناقضهم: أنهم يطالبون بحوار عقلاني، وتفاهم علمي، وأخذ بروح الإسلام وخطوطه الكلية:

     فإذا دار في مجلس حديث ينادي بإلغاء السنة: فلا بأس، هذه حرية رأي!

     حديث يشكك في القرآن: ماشي؛ نعطيه فرصة!

     يطعن في المعلوم من الدين بالضرورة: وما له؟ نحن نرحب بالحوار!

     كلام يطعن ويخنق التراث: هذه مناقشة علمية، وهذا حديث كبار وأساتذة جامعة!

فإذا جاء شاب مسكين يبحث عن التزام بسُنّة في هيئته، أو منطقه، أو نظام حياته، وظنوه قد أخطأ أو أساء، فيا ويله، ويا سواد ليله، وهات يا ألفاظ من ماركة: ضيق العطن، والتسرع، والتنطع، والتطرف، والـ… وأخرجوهم من قريتكم، اقتلوا الجاهل أو اطرحوه أرضًا، ووالله ما أبالغ!

** وهم يملكون مقدارًا جيدًا من المرونة التي تنجي في الشدائد، فهم دائمًا في “السّيف سايِد” تصفهم النخبة العلمانية بالاستنارة، والدعاة الفندقيون بالوعي واليقظة، والخصوم المقاربون بالاعتدال، ووسائل الإعلام “النظيفة” بأنهم “البهوات المفكرون الفلتات”!

إنهم قوم يحسنون التأتي، ويملكون أنوفًا ذات حساسية لمعرفة اتجاه الريح، وهي موهبة لا يملكها -عادة– السذج، والمباشرون، والمستقيمون، والمحتسبون.

** وهم يستطيعون الكلام في كل شيء؛ لا أدري كيف: في هموم الأمة الاقتصادية، والخصخصة والبورصات، وفي ملامح الخلل الاجتماعي، والدماء الطبيعية، ونظرية النسبية، والسياسة الشرعية، وسعر الحرنكش، والجينوم، ودقائق المسائل العلمية والتجريبية، والديمقراطية الإسلامية (والليبرالية المحمدية)، ومفاعل شِيرنوفَل، وحقوق المرأة، وهيمنة الفكر الذكوري الاستبدادي، والأوتوبيوجرافيا النفسية، وتصميم مركبات الفضاء، وارتفاع الدولار، وسر وجود قرود الليمور في مدغشفر،

 ولوحات بيكاسو، وعيوب التصميم القديم لمحركات الديزل!

كل شيء يعرفون، فلا شيء مستحيلًا، ولا شيء يقال فيه لا أعرف، تمامًا كاللغوي الخنفشاري الذي كان يستطيع -على البديهة- أن يأتي بشاهد من اللغة على أية كلمة، فلفق له بعض العيال المشاغبين كلمة، اختار كل واحد منهم حرفًا من حروفها، ثم سألوه:

يا مولانا النخبوي: أتعرف الخنفشار؟ فأجاب دون أن تطرف عينه: الخنفشار؟ بكل تأكيد، وهل يخفى علي من اللغة شيء؟ إنه مادة ينعقد بها الحليب، قال ابن فلان:

لقد عُقدت محبتُكم بقلبي ******  كما عقد الحليبَ الخنفشارُ

** وحبايبنا النخبويون حريصون جدًّا على المواقع الباهرة المدوية، فتجدهم في المراكز العربية والعالمية قد أخذوا بتلابيب ونواصي كراسي الثقافية الإسلامية والعقيدة والفلسفة والإعلام وما شابه ذلك. وعلى الرغم من هذا فإن الكثرة الكاثرة منهم – كما أشرت قبل- غير مقروئين، وغير اجتماعيين، ولا معايشين للناس ولا للواقع وللدعوة.

فرق بين نخبة ونخبة:

لقد رأينا كبار رؤوس العمل الإسلامي – المؤثرين – أناسًا “مثلنا”: أبناء نكتة وسماحة وجه، وحسن معشر، ومعايشة للواقع!

وجدناهم أليفين مألوفين، باشّين ودودين!

فهل يتعلم أهل الألاطة، أم يصرون على أن يبقوا بعيدين عن المجتمع والشباب والدعوة الميدانية، الفعلية، لا يتكلمون إلا من أنوفهم، ولا يشيرون إلا بأطراف أصابعهم، حفاظًا على “البرستيج” النخبوي المزعوم؟

** وعلى الرغم من أن الثياب والهيئة ليست مقياسًا نهائيًّا وفاصلًا في الالتزام وعدمه، فإنها – على كل حال- تبقى ذات دلالة؛ فالثياب في كل المجتمعات، وعند دارسي الأنثروبولوجيا، هي بطاقة هوية، تعكس المستوى الاقتصادي والاجتماعي والعقَدي والأخلاقي للابسها، لا شك في هذا!

وأهل الألاطة – في ظني – غير حريصين كثيرًا على مجرد اللمسة الإسلامية المميزة، فلا لحية، ولا شارب، ولا أية علامة، مع أن العربي يقول: إن شبيه الشيء منجذب إليه، والطيور على أشكالها تقع، ومع تصريح سادتنا العلماء بأن المشابهة في الزي تورث المحبة والميل لأهله.

وإنك لن تجد في حبايبنا المفكرين المستنيرين من يحرص على التشبه بمحمد صلى الله عليه وسلم في بعض العلامات الفارقة؛ لأنهم -ببساطة– مستنيرون!

وتدفعني هذه النفثة إلى افتراض – أن يتبلور اعتقاد فكري عام في فترات مقبلة بأن النخبة ستعتبر نفسها جماعة الحق الوحيدة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)، وبناء عليه سيطالبون بقمع صور الباطل والجهل والضلال على طريقة معتزلة المأمون، الذين سجنوا العلماء، وذبحوهم، وأرهبوهم، على الرغم من إعلاء المعتزلة للعقل والعدل والحرية!

ولماذا أفترض؟ إنه فعلًا حاصل!

وهل تمتلئ السجون منذ نحو قرن من الزمان بغير الإسلاميين!؟

ويا لله للعقل والحرية.

Please follow and like us:
د. عبد السلام البسيوني
باحث وداعية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب