برغم ما للمهاجرين والأنصار الأولين من منزلة وسبق على العالمين -سوى الأنبياء والمرسلين- فإنهم يلحق بهم في الفضل والأجر أجيال من المهاجرين والأنصار اللاحقين، الذين يجدد الله بهم الدين ويحقق بهم التمكين..
ولا عجب؛ فأهل اليمين {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (٤٠)} [الواقعة].
وسيد الأولين والآخرين- صلى الله عليه وسلم- يقول: (أمَّتى كالمطرِ لا يُدرى أولُّه خيرٌ أم آخرُه) رواه أحمد والترمذي بإسناد حسن
صحيح أن هجرة النبي وأصحابه سبق أجرها لأهلها؛ ولكن أنواعا من الهجرة والنصرة تظل باقيًة ما بقي الجهاد.. و(الجهاد ماض الى يوم القيامة).. وذلك لبقاء عداوة الكفار الذين قال الله تعالى عنهم: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [البقرة/٢١٧]..
فماداموا يقاتلوننا سيظل باب الهجرة مفتوحًا لجهادهم.. أو لاعتزال فتنتهم وإضلالهم، ولهذا ثبت في الحديث أنه: (لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ)
رواه النَّسائي بإسناد صحيح.
فالهجرة في سبيل الله ستظل بابا مفتوحا لنصرة الدين، خاصة إلى الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، كما قال الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم- (ستكونُ هجرةٌ بعدَ هجرةٍ، فخِيَارُ أهلِ الأرضِ أَلْزَمُهُم مُهَاجَرَ إبراهيمَ)
أخرجه أبو داود (٢٤٨٢) واللفظ له، وأحمد (٦٨٧١) وصححه الألباني
ومن أعظم الهجرة.. هجر السوء وأهله؛ كما في الحديث: (المهاجرُ من هجر ما نهى اللهُ عنه) متفق عليه.
ولأزمنة الفتن التي نعيشها خصوصية تتعلق بهجرة خاصة تعبدية، حيث وصف النبي صلى الله عليه وسلم – مثل تلك الأزمنة بالهًرْج -بفتح الهاء وتسكين الراء- وقال: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ) [رواه مسلم / ٢٩٤٨]
وفي كل الأحوال لا غنى لمسلم عن هجرة.. كما لا فكاك له عن جهاد، كما في الحديث : (الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ) رواه الترمذي وصححه الالباني.
وفي معنى الحديث هذا قال ابن تيمية رحمه الله: «(الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ) فَيُؤْمَرُ بِجِهَادِهَا، كَمَا يُؤْمَرُ بِجِهَادِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعَاصِي وَيَدْعُو إلَيْهَا، وَهُوَ إلَى جِهَادِ نَفْسِهِ أَحْوَجُ؛ فَإِنَّ هَذَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَذَاكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ».
فما دام هناك شياطين يوسوسون وأعداء يقاتلون.. ستظل الهجرة والنصرة باقيتين حتى آخر الزمان.. (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) أخرجه أبو داود وصححه الألباني..
ولما ذكر الله المهاجرين والأنصار الأوائل فأثنى عليهم.. أثنى بعدهم على أقوام يأتون خلفهم فيسيرون على طريقهم، فسجل رضاه عنهم ورضاهم عنه فقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]
كتب الله لنا ولكم أجور المجاهدين وبلغنا وإياكم منازل المهاجرين..