د. عبد العزيز كامل يكتب: متى نهاجر؟!
مثلما تكون هجرة الإنسان ببدنه من الأوطان اضطرارا أو إيثارا من أجل الله؛ فإنها تكون كذلك بالقلب من حال الانشغال عن الله إلى الاشتغال بقربه ورضاه..
وهجرة القلب هذه قسمان:
الهجرة إلى الله بالعبودية والتوكل والإنابة والخوف والرجاء.
والهجرة إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم بالتأسي وتمام الاتباع وحسن الاقتداء.
وبهاتين الهجرتين تتحقق سعادة الدنيا والآخرة، وفيهما ألف ابن القيم كتابه العظيم: (طريق الهجرتين ومفتاح السعادتين)..
وستظل الهجرة بالأبدان والجنان عبادة متجددة على مدى الزمان، لأنها شعبة عظيمة من شعب الإيمان، كما قال الله عز وجل: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء/ ١٠٠]..
وهي باقية بأنواعها وبكامل أجرها إلى يوم الدين، كما قال النبي الأمين – صلى الله عليه وسلم – (لا تنقطعُ الهجرةُ حتى تنقطعَ التوبةُ، ولا تنقطعُ التوبةُ حتى تطلعَ الشمسُ من مغربِها). رواه أبو داود، وصححه الألباني برقم (٢٤٧٩). وفي الحديث أيضا: (لا تنقطعُ الهجرةُ ما قوتِلَ العدُوُّ) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد برقم (٥/٢٥٤) وقال: رجاله رجال الصحيح.
لكن الهجرة بالقلب أكثر خصوصية من غيرها، وعلامة صدقها: هجر المعاصي وأهلها؛ كما في الحديث:
(.. المجاهدُ من جاهدَ نفسَهُ في طاعةِ اللَّهِ والمهاجرُ من هجرَ الخطايا والذُّنوبَ) أخرجه أحمد وغيره بإسناد حسن [٢٤٠١٣]
وإذا كان رضا الله قد سجله القرآن للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ فإنه مكفول كذلك ومكتوب للاحقين الآخرين، من الذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، كما قال الله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
[التوبة/١٠٠]
بل إن لأزمنة الفتن التي نعيشها خصوصية، تتعلق بهجرة خاصة قلبية تعبدية، حيث وصف النبي صلى الله عليه وسلم – مثل تلك الأزمنة ب(الهرج) – بفتح الهاء وتسكين الراء – وقال: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ) [رواه مسلم/ ٢٩٤٨]..
والهرج هو: اختلاط الأمور الموصل إلى كثرة الفتن وسفك الدماء، وفي الحديث «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْهَرْجُ» قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْقَتْلُ، الْقَتْلُ» متفق عليه واللفظ لمسلم.
فالتعبد بهجرة القلب في زمن التقلبات والفتن أكبر ما يغتنم لنوال الأجر الأعظم.. أجر المهاجرين الأولين لدار هجرة سيد الأولين والآخرين..
فاللهم اجعلنا منهم.. وطهر قلوبنا مثلهم.. وألحقنا بدار الكرامة معهم.