د. عبد العزيز كامل يكتب: هل أخذت بنصيبك من الهجرة؟
الهجرة ليست مجرد ذكرى مَرَّتْ.. ولا هي محض فضيلة انقطعت.. بل إنها شِرعةٌ دائمة، وسنةٌ دائبة.. تتكرر بتكرار موجباتِها ووجود أسبابها التي لن تنقطع مادام الصراع قائما بين حزب الرحمن وحزب للشيطان .
ولأن هذا الصراع دائم وقائم حتى تقوم الساعة، فالهجرة بأنواعها وفضائلها ستظل باقية..
صحيح أن هجرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ستظل أعظم معالم الطريق في نصرة الدين، وأن ما كان بعدها من هجرة أصحابه إليه قد مضى فضلها لأصحابها الأولين، حيث (لاهجرة بعد الفتح).. ولكن أنواعا من الهجرة بقيت مع ذلك، فكل مسلم لا غنى له عن هجرة..كما لا فكاك له عن جهاد ،كما في الحديث: (الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ الله، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ) رواه الترمذي وصححه الألباني.
وفي معنى هذا الحديث يقول ابن تيمية رحمه الله: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ فَيُؤْمَرُ بِجِهَادِهَا، كَمَا يُؤْمَرُ بِجِهَادِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعَاصِي وَيَدْعُو إلَيْهَا، وَهُوَ إلَى جِهَادِ نَفْسِهِ أَحْوَجُ ؛ فَإِنَّ هَذَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَذَاكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ».
وقد قال ابن القيم في كتابه (طريق الهجرتين) ما ملخصه:
«السائر إلى الله والدار الآخرة؛ لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة عِلمية، وقوة عَملية، فالبقوة العِلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك فيقصدها سائرًا فيها، ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطُرُق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل.
وبالقوة العَملية يسير حقيقة، فيضع عصاه على عاتقه، ويشمر مسافرًا في الطريق قاطعًا منازلها منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى، واستشعر القرب من المنزل، فهانت عليه مشقة السفر..»
نوع آخر من الهجرة سيظل باقيًا ما بقي الجهاد، فلأن (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) كما صح بذلك الحديث؛ فإن باب الهجرة سيظل مفتوحا للتصدي لهم أو لاعتزال فتنتهم وإضلالهم، ولهذا ثبت في الحديث أنه: ( لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ) رواه النَّسائي بإسناد صحيح.
وما دام هناك شياطين يوسوسون وأعداء ينفذون؛ ستظل الأبواب الشرعية للهجرة والجهاد مشرعة، ففي الحديث: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) أخرجه أبو داود وصححه الألباني..
وهناك نوع من الهجرة الاضطرارية لا الاختيارية، ويتمثل في الإلجاء القسري للخروج من الديار ومفارقة الأحباب ، وهذا هو الذي جاء فيها قول الله عز وجل : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} [ الحج/ ٣٩، ٤٠].
وفيه أيضا قوله عز وجل { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران/ ١٥٩]
لكن نوعا آخر عظيم من أجر الهجرة ، ظل مدخرا للآخرين في زماننا وبعد زماننا،كما سبق الفضل لأوائل المهاجرين السابقين وقت الرسالة، وهذا ما يوضحه قول النبي صلى الله عليه:
( الْعِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ) رواه مسلم
ومعنى: (الهرج): زمان كثرة الفتن وتخبط الناس لاختلاط الأمور والانهماك في أمور الدنيا الملهية عن العبادة الحقة.
نسأل الله أن يكتب لنا ولكم أجور المجتهدين المجاهدين، وأن يبلغنا وإياكم منازل المهاجرين..