أَمَا كنا سادة العالم يومًا ما، بل مئات من السنين؟
أين راحت حضارتنا؟
وأين غَارَ تراثنا العلمي الهائل في شتَّى فنون العلم؟
وأين أثرُه فينا الآن؟
أين بغداد حاضرة العالم؟
أين الأندلس جنَّة الله في أرضه؟
وأين جامعة قرطبة العريقة؟
أين القدس التي فتحها الفاروق، واستردَّها صلاح الدين؟
أين الممالك التي فتحها الأجداد حتى رويت الأرض بدمائهم الطاهرة الذكية؟
أين كنوز كسرى وقيصر وإمبراطوريتهما بعد أن سكبت تحت قدمي الفاروق؟
لماذا نهض أجدادنا وتخلفنا؟
لماذا انتصروا وهُزمنا؟
لماذا عزُّوا وذللنا؟
لن أكثر الحديث عن ماضينا التَّليد الذي يحق لنا أن نفخر به، لكن مسؤوليتنا عظيمة في العمل على استرداد كل هذا، أو على الأقل بعضه.
وأرى أن من أهم أسباب انتصار آبائنا وأجدادنا من صحابة نبيِّنا والتابعين لهم بإحسان، ونهضتهم وتقدمهم وعزهم هو: بناء الرجال.
فما من شك أبدًا أننا ندين بدين الحقِّ الذي مِنْ أجله خلق الله السماوات والأرض، ومن أجله أنزل الله الكُتُب وأرسل الرُّسل، ومن أجله سيكون الحساب والعرْض، ومِنْ أجله خلق الله الجنة والنار.
اعلم أن فردا قد يحيي أمة، وأن الجهد الفردي يتراكم بعضه فوق بعض، حتى يصير إنجازا كبيرًا.
رجل يتحرك من أقصى مكان في القرية لنصرة الدين والرسل( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفي ضَلالٍ مُبينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لي رَبِّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ (٢٧).
رجل خلّد الله ذِكره ولم يذكر اسمه، درسٌ لكل مؤمن في الصدق والإخلاص، فالعبرة: ماذا قدّمتَ، لا مَن أنت؟لا يضركَ جهل الناس بك ما دمت مذكورًا في السماء.
” أينقص الدين وأنا حي” كلمات قالها سيدنا أبو بكر في أحلك ظروف المسلمين، ذلك الوقت الذي قال عنه عروة بن الزبير رضي الله عنه: كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، لِفَقْدِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ.
قالها الصديق وقت امتناع بعض القبائل عن الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الصديق لم يتحمل عقله، كيف ينقص الدين وهو حي، قالها وهو موقن أن كل فرد منا مسؤول عن نصرة الدين، وأن الشخص الفعال المنشغل بنصرة دينه يمكنه أن يغير المعادلة.
وقف رضي الله عنه وقال: “إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟.
ويُقسّم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواء،وجعل على كل لواء أميرًا، وأمر كل أمير جند باستنفار من مر به من المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها.
وأصر على قتال المرتدين، ولم يقل: إن الظروف صعبة والصحابة في حالة حزن، والجيوش غير مؤهلة، لكنه كان يرى أن كمال الدين والمحافظة على شريعة الرحمن كما أنزلت على الرسول هي الأساس، فكانت حروب الردة التي حفظ بها الدين وكسر شوكة القبائل الباغية.
لكن هذه الكلمات لم تكن وقود الانطلاق في حروب الردة فقط، فهي أسلوب حياة الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عمر رضي الله عنه يقول له عمرو بن العاص: بَلَغَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّكَ لا تَنَامُ بِاللَّيْلِ وَلا بِالنَّهَارِ؛ إِلا مُغَلَّبًا،(أى ينام وهو جالس)فَقَالَ: يَا عَمْرُو، إِذَا نِمْتُ بِالنَّهَارِ ضَيَّعْتُ رَعِيَّتِي، وَإِذَا نِمْتُ بِاللَّيْلِ ضَيَّعْتُ أَمْرَ رَبِّي.
والسؤال الآن: أينقص الدين وأنت حي؟
إنه شعارٌ لا بد أن يحمله كل مسلم غيور على دينه وأمته، ليلحق بالركب ويكون من أهل الفضل الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وفي رواية: وهُمْ كذلك. أخرجه مسلم.
الفاروق المُلهَم المُحدَّث رضي الله عنه الذي خرج يومًا إلى الشام ليَلْقى أبا عبيدة بن الجراح، وكان عمر بن الخطاب يركبُ ناقته، وفي الطريق مرَّ على مخاضة، فأشفق على ناقته، فنزل مِن على ظهرها وجرَّها، وخلع نعليه، ووضعهما على عاتقه وأخذ بزمام النَّاقة، ونظر أبو عبيدة بن الجراح، فتعجَّب لحال عمر، وقال له: يا أمير المؤمنين، أأنت تصنع ذلك؟ والله، لا أحب أنَّ القوم قد استشرفوك وأنت على هذه الحالة،فقال عمر: “أَوَّهْ يا أبا عبيدة، لو قالها أحدٌ غيرك، لجعلته نكالاً لأُمَّة محمد”، ثم قال: “يا أبا عبيدة، والله، لقد كنَّا أذل قومٍ، فأعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العِزَّة في غيره أذلنا الله”.
بلال رضي الله عنه يأبى على مُعذِّبيه الذين فعلوا به الأفاعيل، حتى إنَّهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدَّة الحر، ويأمرونه أن يشرك بالله، فيأبى عليهم ويقول: أحَدٌ، أحَدٌ، ويقول: والله، لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها، لقلتها.
حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذَّاب: أتشهد أنَّ محمدًا رسول الله؟ فيقول: نعم، فيقول: أتشهد أني رسول الله؟فيقول: لا أسمع، فلم يزل يقطعه إرْبًا إرْبًا، وهو ثابت على ذلك.
عبد الله بن حُذَافة السهمي أحد أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لما أسرته الرُّوم، جاؤوا به إلى ملكهم، فقال له: تنصَّر وأنا أُشْرِكُك في مُلكي، وأُزوِّجَك ابنتي، فقال له: “لو أعطيتني جميعَ ما تَملك، وجميع ما تَملكه العربُ على أنْ أرجعَ عن دين محمد طرفةَ عين – ما فعلت، فقال: إذًا أقتلك، قال: أنت وذاك، فأَمَر به فصُلِب، وأمر الرُّماة فرموه قريبًا من يديه ورجليه، وهو يَعْرِض عليه دينَ النصرانية، فيأبى، ثم أمر به فأُنزِل، ثم أمر بِقِدْر، وفي رواية: ببقرة من نحاس، فأُحميت، وجاء بأسير من المسلمين، فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرُفِع في البَكَرَة ليُلقى فيها فبكى، فَطَمِع فيه ودعاه، فقال له: إني إنَّما بكيت لأن نفسي إنَّما هي نفس واحدة تُلْقى في هذه القِدر السَّاعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كلِّ شعرة في جسدي نفسٌ تعذب هذا العذاب في الله.
وفي بعض الرِّوايات: أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أيامًا، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يَقْربه، ثم استدعاه، فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنَّه قد حل لي، ولكن لم أكن لأُشْمِتك فيَّ، فقال له الملك: فَقَبِّلْ رأسي وأنا أُطلقك، فقال: وتطلق معي جميعَ أُسَارَى المسلمين؟ قال: نعم، فقبَّل رأسه، فأطلقه وأطلق معه جميعَ أُسَارى المسلمين عنده، فلما رجع، قال عمر بن الخطاب: حَقٌّ على كل مسلم أنْ يقبِّل رأس عبدالله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبّل رأسه.
استعل بدينك، فدينك دين جذب؛ لأنَّه الحق وحْدَه، وكل لحظة يدخل الناس فيه أفواجًا، واسأل الإحصائيَّات، حتى في قلاع الكفر ومدن الإلحاد.
اقرأ لمن دخلوا في الإسلام حديثًا، ستعلم أنَّهم ما ولدوا إلا لحظة.
ثِقْ أيُّها الموفَّق أن من رَام هدًى في غير الإسلام، ضلَّ، ومَن رام إصلاحًا بغير الإسلام، زلَّ، ومَن رام عِزًّا في غير الإسلام، ذَلَّ، ومن أراد أمنًا من دون التوحيد، ضاع أمنه واختلَّ.
اللهم استعملنا ولا تستبدلنا، انفعنا وانفع بنا، سُدّ بنا ثغور أمتك، واكفنا شرّ الرياء، وابعد عنا التخاذل، اللهم ارزقنا نور العقل، ونقاء القلب، وقربك ياالله .