د. عبد الله الغيلاني يكتب: حماس.. المنعطف الإستراتيجي الأخطر: تزول أم تتمدد؟
كل ما يجري في غزة وفي محيطها الإقليمي، على الصعيدين العسكري والسياسي إنما يدور حول غاية مركزية واحدة هي: استئصال حماس استئصالاً كليا، وإن تعذرت الإزالة الكلية فلا تراجع عن تفكيك عدتها العسكرية والإبقاء عليها كياناً سياسيا رثًّا مهيض الجناح، منزوع الشوكة، كما هو حال فصائل أوسلو.
ذلك المقصد الإستراتيجي ليس مطلباً إسرائيلياً فحسب، بل هو غاية دولية وإقليمية، وبين أيدينا من البينات ما يكفي لإثبات تورط عدد من العواصم الاقليمية في مشروع الاجتثاث ذاك.
هذا الأمر هو الأخطر، ليس على مستوى القضية الفلسطينية فقط، بل على مستوى معادلات الصراع الإقليمي برمتها. ذلك أن هزيمة حماس (عسكرياً) أو انتصارها سيفرز تحولات محورية على الصعيدين الفلسطيني والعربي.
إذا انكسرت كتائب القسام وأحيط بحماس فلك أن تتصور مآلات القضية الفلسطينية وقد تم تصفيتها تماما، ولك أن تتصور الشعب الفلسطيني وهو يساق إلى محارق أوسلو بما يعني ذلك من إذلال وتهجير وسطو على الارض وانتهاك للعرض ، ولك أن تتصور تساقط ما بقي من حوائط الصد العربية كلها، ولك أن تتصور الاجتياح الصهيوني للفضاءات العربية دون مقاومة تذكر، ولك أن تتصور مزيداً من التوغل الصهيو-أميريكي في مؤسسات الحكم العربية، ولك أن تتصور مزيداً من القمع والملاحقة للحالة المطلبية العربية الداعية إلى الإصلاح الدستوري، ولك أن تتصور إسرائيل الكبرى وهي تعيد تشكيل الوعي العربي وتعبث بمفردات القيم والثقافة العربية ، ولك أن تتصور اليهود وهم يتعقبون عرى الإسلام لينقضوها الواحدة تلو الأخرى ولن يقتصر الأمر على القيم السياسية، بل سيمتد ليشمل كل تعبيرات الإسلام حتى لا تبقى قيمة حية ولا مفهوم أصيل.
حركة المقاومة الإسلامية بكل تعبيراتها العسكرية والسياسية هي حائط الصد الأول الذي يمنع تلك الانهيارات!
ونحن نعالج أمراً بالغ الخطر كهذا، نبتغي بذلك الوصول إلى نتائج علمية، ينبغي أن نقاربه بأدوات موضوعية صارمة لا موضع فيها للمؤثرات العاطفية.
نحن أمام احتمالين: الانكسار أو الانتصار. أما الانكسار فقد أشرنا إلى ما يمكن أن يفضي اليه من كوارث، ولكن يبقى السؤال المحوري: أي الاحتمالين أقرب إلى الرجحان؟ وهل تملك المقاومة أدوات التدافع الإستراتيجي؟
ولكن ما هو التعريف المعياري للنصر كي نحتكم اليه بعيداً عن الحديث المرسل والاطلاقات اللفظية؟
لأغراض هذا المبحث، سنعتمد تعريفاً واحداً، وإلا فإن هناك طيفاً واسعا من تمظهرات النصر لا تعنينا في هذا المقام والتعريف هو: اندحار إسرائيل وعجزها عن بلوغ أي من أهدافها المعلنة وبالتالي خروج الكتائب من هذه المواجهة موفورة العدة والعدد، متماسكة الصف، سالمة القيادة،
هناك جملة من المؤشرات المفتاحية التي يمكن اعتمادها للوصول إلى الاستخلاصات.
*قوة عسكرية عميقة البناء العقائدي، منضبطة الاداء الميداني، تتحرك بروح جهادية متوثبة، لم تنكسر في معركة قط، رغم الفوارق التسليحية بينها وبين عدوها! نحن أمام أنموذج غير معهود في الحالة العربية المعاصرة!!
*قيادة سياسية تملك رؤية ومشروعاً ولها بصيرة نافذة وفهم عميق لمفاصل النظام الدولي والإقليمي، وقدرة على المناورة والتحرك في الهوامش المتاحة.
البنية الفكرية والتنظيمية للحركة تعصمها من التشظي وتحميها من التشققات وتمنحها اتساقا فكرياً وصلابة تنظيمية.
حاضنة شعبية ليست فقط متصالحة مع المقاومة أو مساندة لها، بل هي جزء أصيل من الحالة الجهادية، وقد أبدت من ضروب الصبر والبسالة والاحتساب ما جعل العالم يسأل؛ أي جنس من البشر هؤلاء!
حواضن جماهيرية ممتدة في العالمين العربي والإسلامي، تتبنى مشروع المقاومة وتبدي استعدادا للانخراط فيه لولا الموانع السياسية.
تفوق أخلاقي عزز سردية الحركة وأحدث انقلابا سياسيا في الوجدان العالمي الذي بات يشهد تحولات جوهرية في منظوره السياسي ومواقفه الأخلاقية إزاء القضية الفلسطينية.
أما الوقائع على الأرض فإنها في المحصلة الإجمالية تشي بتراجع القوة الإسرائيلية التي تشهد انتكاسات ميدانية متتالية تهدد بتصدع الإجماع السياسي وتصاعد السخط الشعبي.
نخلص إلى أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تعبر منعطفاً هو الأخطر في تاريخها، وأنها بهذا العبور تصنع تاريخاً جديداً للمنطقة وتفرض معادلات صراع جديدة، ومن ثم فإن الحديث عن مرحلة ما بعد حماس هو ضرب من اللهو السياسي، فعلى عقلاء العرب أن يعرضوا عن ذلك اللهو ويعيدوا تموضعهم استعدادا لمرحلة ما بعد الطوفان تكون حماس هي واسطة العقد فيها
د. عبد الله الغيلاني
محلل سياسي الأكاديمي عُماني وخبير في الشؤون الإستراتيجية