د. عبد الله كمال يكتب: التشهير.. والإثارة ومواقع التواصل
يؤسف المرء أن يرى بعض الظواهر التي تسللت واستشرى لهيبها بين أبناء مجتمعنا, فخرّبت وما عمّرت وهدمت وما بنت, من ذلك: (التشهير عبر مواقع التواصل):
فكم لوثت أبصارنا وضاقت نفوسنا بتلك المنشورات التي تحمل طابع التشهير والتي سُطرت بمِداد الضغينة والتعيير.
فإن كان هذا التشهير بغير حق:
فيا ويل صاحبه ويابؤس عاقبته؛ فقد قال نبينا: مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رَدَغَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: «عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ».
وإن كان بحق فينبغي أن يُعلم أمورا:
الأمر الأول: أن الستر على المسلم هو الأصل.
فالستر مأمور به, وقد جعل الله عاقبته محمودة ومآله مشكور؛ ألم يقل نبينا:«وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِما سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»
وقوله «سَتَرَ مُسْلِماً» يدخل في هذا كل مسلم، ولو كان مسرفاً على نفسه بالمعاصي، لأنّ «مسلماً» نكرة في سياق الشرط، فتفيد العموم, فيشمل كل مسلم، وإن كان مسرفاً على نفسه بالمعاصي، وذلك أن الله تعالى يحب الستر.
الأمر الثاني: ستر ذوي الهيئات خاصة:
وهو الإنسان المستقيم في ظاهره غير المعروف بالأذى والفساد
قال النَّووي: (وأمَّا السَّتر المندوب إليه هنا، فالمراد به: السَّتر على ذوي الهيئات ونحوهم، ممَّن ليس هو معروفًا بالأذى والفساد، فأمَّا المعروف بذلك، فيُسْتَحبُّ أن لا يُسْتَر عليه، بل تُرْفَع قضيته إلى وليِّ الأمر).
الأمر الثالث: أن التظلم يكون عند السلطان
ذكر العلماء أن الغيبة تجوز في حالات: الأولى منها: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان أو القاضي، وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه ممن ظالمه.
أما عبر مواقع التواصل فما يفيد إلا انتصارا للنفس وتشهيرا بالخصم, وتشويها لكما بل ولما تمثلان؛ فيا حبيب: حقك يؤخذ عبر القنوات الرسمية ـ إن كان ثمة حق ـ وإن كان حقا عاما فأولى أن يرفع للسلطان بعيدا عن لعِب الصبيان.
الأمر الرابع: حق الصحبة
ويؤسفني أيضا أن ترى الرجل يصاحب الرجل ردحا من الدهر يؤاكله ويشاربه ويسامره حتى يكشف له عن خبيئته, ومتى ما خالفه أو تعارضت المصلحة أو دخل الشيطان بينهما قلب له ظهر المَجَنِّ؛ فرماه بكل نقيصة وأظهر له كل ذميمة, ولو تأمل لعلم أنه طاعن في نفسه قبل صاحبه ألم يعلم عنه كل ما رماه به زمنا طويلا وكتم, عندها يصدق عليه قول نبينا (وإذا خاصم فجر)
بل الصاحب بحق لا ينسى لحظات المودة, ولا ينسى حق العيش والملح االلذين أكلاه سويا.
فيحفظ حق الصحبة ولو انتهت؛ فإن حُسن العهد من الإيمان كما أخبر نبينا.
وضد ذلك من خصال النفاق(وإذا خاصم فجر) فلاينبغي للمؤمن أن يكون هذا طبعه ولا ذاك سلوكه.
الأمر الخامس: حرمة نشر الإشاعات قبل التأكد:
فما أن يتلقف الخبر إلا وراح يهرف به هنا وهناك وهو لم يتثبت ويشاهد, وربنا قال(إلا من شهد بالحق)وقال (فتثبتوا)ونبينا قال فيما فيه مقال(ترى الشمس، قال الصحابي: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع.) وقال: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)
وأخيرا:
الله الله في الإخلاص: فلايُهمّ موقعك من الناس, المهم موقعك ومكانك من رب الناس.
علّمنا نبينا ذلك فقال: طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ.
وعامربن سَعْدٍ قال لأبيه ـ وهم ينصبون الخليفة ـقال: يَا أَبَتِ أَرَضِيتَ أَنْ تَكُونَ أَعْرَابِيًّا فِي غَنَمِكَ، وَالنَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِي الْمُلْكِ بِالْمَدِينَةِ؟فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ، فَقَالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ»
وجاءَ رَجُلٌ لنبينا فَقالَ: يا مُحَمَّدُ إنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وإنَّ ذَمِّي شَيْنٌ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ذاكَ اللَّهُ» .
- الأمر الآخر الذي استشرى شره عبر صفحات التواصل الإلكترونية هو:
(النشر الإثاري):
والذي غرضه جذ ب المتابعين عبر نشر الجرائم أوالأخبار التافهة: فهذه تقتل ولدها, وهذا رجل يقتل أبناءه, وآخر يمارس جريمة الزنا مع . .. وأخرى قتلت زوجها وهو نائم.. و.. و..
صور بشعة لجرائم يقشعر منها البدن، وتشمئز منها النفوس.
بالله عليك أخبرني ألا يدخل في إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا؟ وقد قال لنا ربنا (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
ألا يسهم هذا الفعل في تعليم التحايل وطرق المكر والخداع؟
ألا يهون هذا من المعاصي والكبائر لكثرة ما تسمع أخبارها فتصير أمرا عاديا مألوفا؟
ألا يؤدي هذا الفعل إلى إساءة الظن بالمجتمع المسلم فيسلط الضوء على الشر الموجود فيه دون خيره ومحاسنه؟
وليُعلم أن الإسلام يحافظ على كرامة الإنسان وإن كان عاصيًا؛ ليرده مرة أخرى لحياض الاستقامة. تأمل: أُتِيَ النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “لا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ”.
والأطباء النفسيون والخبراء في علم الاجتماع يقولون: “إن مشاهدة فيديوهات الجرائم العنيفة، ومتابعة الأخبار المؤلمة، قد تولد رغبة للعنف، وتداول أخبار الجرائم والفيديوهات وانتشارها يُصيب الكثير من الأشخاص بنوبات الهلع، والدخول في حالة اكتئاب، ومن يُعاني من حالة نفسية سيئة، يزداد الأمر سوءا لديه بعد مشاهدته تلك المشاهدة العنيفة، ربما يؤدي إلى نتيجة لا يحمد عقباها”.
- وواجبك نحو هذا النوع من النشر: أمِتْه بالسّكوتِ عنه؛ حتى لا تكون داعما له من حيث لا تدري, بل حظرا لتلك الصفحات وأرح نفسك.
وفي النهاية:
ما من كاتب إلا سيمضي *** و يبقى الدهر مـا كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء *** يـسرك في القيامة أن تراه.