أقلام حرة

د. عبد الله كمال يكتب: الخلاف الأشعري السلفي إلى أين؟

أولا: الخلاف سنة من سنن الله لابد منه؛ فقد قال ربنا:{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}.

ولكن نحن مطالبون شرعا بنبذ الخلاف ورأب الصدع بين أبناء المجتمع المسلم, أو على الأقل تقليله وتحجيمه وتأطيره بإطار الأخوة والأدب والحلم؛ ألم يقل ربنا:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}{ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }.

وقد بلغ حرص النبي على ذلك مبلغا عظيما حتى أنه قال لصحابته ـ رضوان الله عليهم كما عند البخاري: «اقْرَءُوا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ»! قال الحافظ: «أَيْ فِي فَهْمِ مَعَانِيهِ فَقُومُوا عَنْهُ أَيْ تَفَرَّقُوا لِئَلَّا يَتَمَادَى بِكُمْ الِاخْتِلَافُ إِلَى الشَّرِّ». ويحتمل: «تَمَسَّكُوا بِالْمُحْكَمِ الْمُوجِبِ لِلْأُلْفَةِ وَأَعْرِضُوا عَنِ الْمُتَشَابِهِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْفُرْقَةِ. …».

يا الله حتى في القرآن إلى هذه الدرجة يخاف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته من الاختلاف المفضي للتنازع والتدابر.

ومن العجيب أنه في ظل هذا الحرص المتتابع من الشرع على الوحدة ونبذ الفرقة, يظهر علينا في أيامنا هذه من ينبش في ركام الماضي؛ يُريد بعث الخلاف السلفي الأشعري من جديد ويزكي بذلك نارا نحن في غنى عنها؛ يكفي الأمة ما هي فيه فهي لا تكاد تفيق من تتابع النكبات, واجتماع أعدائها عليها.

ويا ليت المسائل المثارة بين الفريقين هي سبب تأخر أو تقدم الأمة بل هي مسائل تباينت فيها العقول في فهم بعض النصوص, وهذا التباين كان ولا زال وسيظل -إلا أن يشاء الله- قال الذّهبيّ -رحمه الله-: «وكان بين الأشعرية والحنابلة تعصب زائد يؤدي إلى فتنة وقيل وقال وصداع طويل».(1)

وهذا ما نخشاه أن تكون إثارة هذا الخلاف شرا على الأمة وفرقة فوق فرقتها(2), لاسيما والمختلفين ليس عوام المسلمين بل نخبتهم المنوط بهم الزود عن الدين ومجابهة الملحدين,

فيا حسرة على العباد بينما الأمة مثقلة بالجراح جرّاء اجتماع أعدائها عليها من كل حدب وصوب, إذ بالعاملين للإسلام المنوط بهم حمايته والزود عن حياضه بأسهم بينهم شديد, يحارب بعضهم بعضا, وإن أردت البيان فتأمل في تعليقات هذا الفريق أو ذاك على مواقع التواصل ـ إلا من رحم ربي ـ تجد حقدا عجيبا وتحاربا بغيضا بينهما كل منهم يرمي جميع ما في جعبته من سهام تجاه إخوانه من الفريق الآخر والآخر يبادله الرمي فتضيع أغلب السهام بعيد عن نحور أعدائهم إلى نحور إخوانهم.

وكأني بالعدو من خلف الصفوف تعلو ضحكاته على ما وصل إليه الفريقان, ولما لا وهذا إيذان بشق الصف, وتفرق الأمة وتمزقها أكثر وأكثر, لاسيما وهما القطبان الكبيران المنوط بهم حماية جناب الأمة المحمدية.

فالله أسأل أن يُقيض للأمة علماء صدق يجمعون ولا يفرقون, يكونون كما قال ابن تيمية ـ رحمة الله عليه وعلى سادتنا العلماء المنصفين من الحنابلة والأشاعرة ـ قال: “والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة وأنا كنت من أعظم الناس تأليفا لقلوب المسلمين وطلبا لاتفاق كلمتهم واتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة” . فاللهم قيض للأمة من يجمع صفها, ويوحد كلمتها على عدوها, أنت بكل جميل كفيل وأنت حسبنا ونعم الوكيل.

هوامش

1ـ سير أعلام النبلاء(17/ 460).

2ـ ومما يُحكى: أنه في القرن الخامس عشر الميلادي، وعندما حاصر السلطان العثماني محمد الثاني: محمد الفاتح القسطنطينية، وبينما كان مصير الإمبراطورية بأكملها على المحك، كان مجلس شيوخ المدينة مشغولًا بمناقشة أمور فقهية ولاهوتية لا طائل تحتها، مثل جنس الملائكة (أهم من الذكور أم من الإناث)، وحجم إبليس (هل هو كبير بحيث لا يسعه أي مكان، أم صغير بحيث يمكنه العبور من ثقب إبرة)، وبينما كان الجدل محتدمًا في قاعة مجلس الشيوخ ـ رغم محاولات الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر لصرفهم عن الجدل العقيم من أجل مواجهة الغزاة ـ كان القتال يدور في شوارع بيزنطة بعد أن تمكن جنود محمد الثاني من اقتحام أسوارها، وأخيرًا استطاع العثمانيون السيطرة على المدينة، وقضى الإمبراطور نحبه على أسوارها.

3ـ مجموع الفتاوى( 3/227 ).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights