د. عبد الله كمال يكتب: وكان لنا في الخذلان حياة
أحيانا عندما تتراكم المشاعر نحتاج للبوح؛ وهذا البوح يكون تنفيسا عما يعتري النفس ويثقل كاهلها، وقد يكون الصمت أستر وأحمد للمروءة ولكن ما عسانا نصنع وقد ضجت النفس بما بين جنبتيها، وسامها ما ظللت دهرا حريصا على صيانتها منه؛ فقد دمت ردحا من الزمن مستمسكا عاضا على امتثال حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «غير أني أبيت وليس في صدري شيء لأحد». حتى طمحت نفسي للسعة في الرزق والبحث عن أرض جديدة علِّي أجد فيها ما تمنيت لاسيما وقد انتهيت حينها من مرحلة الدكتوراة عام ألفين وستة عشر، فكان السفر هو السبيل، ولكن أنى لي به؟ فالتمست السبيل من كل من ظننت به القدرة والقرب وكنت في كل مرة أرجع بخفي حنين منكس الرأس يملأ حزن العالمين قلبي لا لأنه ردني خاويا، بل لإني لم أعتد بذل ماء وجهي، وما أسفرت عن وجهي طول عمري إلا من أجل هذا؛ فحز هذا في قلبي وآلمني أيما إيلام وظلت سهام الواردات تترامى في قلبي: لماذا ردوني خائبا؟ وأنا على يقين أنهم لو أرادوا بصدق ما عجزوا. لماذا خذلوني؟ وما آذيت منهم يوما واحدا ولا رأوا مني إلا خيرا.
ولم يكن يسليني في حيرتي ويدفع عن قلبي سُؤْله إلا قول ربي: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) فيعتصر من بين طيات الآية يقينا في موعود ربي أن الله لا يفعل لعبده إلا الخير، وأنه قد يكون الكسر هو عين الجبر وأنه من لطف الله بالمؤمنين: أنه يُقدِّر أرزاقَهم بحسب علمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتهم، فقد يريدون شيئا وغيره أصلح؛ فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه؛ لطفا بهم وبرا وإحسانا.
حينها تتقاذف إلى خاطري سوابق ألطاف الله في المنع أذكر أني هاتفت أحدهم وكان مسئولا عن توزيع كتاب جامع في السنة لطلبة العلم فكلمني بغلظة ما تنبغي لمثله ممن أنيط بهم خدمة العلم وأهله وأبى أن يعطيني إياه فأثر ذلك في نفسي وكدر علي صفوي؛ فعلام منعه؟ ولم تكن بغيتي منه يعلم الله إلا الظفر بكتاب يحوي ما صح من مشكاة النبوة، فلم مُنعت إياه كان في المنع أعظم العطاء؛ فقذف الله في قلبي أن الكتاب الذي مُنعته لا يحوي إلا بعض ما صح، دون حسن سَبْك أو ترتيب، أو حل لمشكلاته أو استخراج لجوهر معانيه؛ فقلت أبحث عما يسد مسده ويعالج خلله، فقلبت دواوين السنة وطالعت مناهج أصحابها، فلم أظفر ببغيتي ولا نلت مطلبي، هنا كان العطاء بعد المنع، وأتى الجبر بعد الكسر فقدح الله في ذهني أن أنال بركة خدمة السنة وأن أجمع ما تمنيت الظفر به فكان كتابي (طريق الصالحين باختصار سنة سيد المرسلين)، أو إن شئت فسمه: (خلاصةُ السنةِ، وعُصارةُ فُهومِ علماء الأمة) جامعا لخلاصة صحيح السنة، وعُصارة فُهوم علماء الأمة في بيانها وتوضيح مشكلاتها، مقدما رؤية متكاملة عن الإسلام، مبينا لمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بألخص عبارة ومن أقرب طريق، كل ذلك في قالب معاصر؛ ليكون أسهل في الفهم، وأقرب للتناول؛ فكان الكسر هو عين الجبر والمنع هو عين العطاء وكان لنا في الخذلان حياة.