د. عطية عدلان يكتب: أهل الحل والعقد والدور الكبير المتنظر (2-2)
صفات أهل الحل والعقد:
أوردت الموسوعة الفقهية الكويتية صفات أهل العقد وهي:
أ- العدالة الجامعة لشروطها الواجبة في الشهادات: من الإسلام والعقل والبلوغ وعدم الفسق واكتمال المروءة… إلخ
ب- العلم الذي يوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها.
ﺟ- الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح.
د- أن يكون من ذوي الشوكة الذين يتبعهم الناس، ويصدرون عن رأيهم؛ ليحصل بهم مقصود الولاية.
ﻫ- الإخلاص والنصيحة للمسلمين ([1]).
وفي الأحكام السلطانية للماوردي أن الشروط المعتبرة فيهم ثلاثة: أحدها العدالة الجامعة لشروطها، والثاني العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها، والثالث الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف، وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزية تقدم بها عليه وإنما صار من يحضر ببلد الإمام متوليا لعقد الإمامة عرفا لا شرعا؛ لسبوق علمهم بموته ولأن من يصلح للخلافة في الأغلب موجودون في بلده([2]).
وذكر الدميجي في الإمامة العظمي شروط أهل الحل والعقد([3]) وهي:
1- شروط الولاية العامة: الإسلام العقل الحرية الذكورة العدالة.
2- شروط خاصة: العلم والرأي والحكمة.
وقسَّم الدكتور عبد الله الطريقي شروط أهل الحل والعقد إلى أساسية وتكميلية([4])، فأما الأساسية فهي: الإسلام والعقل والبلوغ والعدالة والعلم والرأي والحكمة والشوكة والذكورية، وأما التكميلية فهي الاجتهاد في الشريعة والخبرة والتجربة والمواطنة والورع، ثم كرَّ على بعضها بالنقد كقوله عن صفة الورع: «ولكن ذلك قليل في الناس، فاشتراطه فيه حرج وما تقدم من شرط العدالة كاف»([5])، وكانتقاده لابن خلدون في جعله العصبية محور الصفات، فقال: «نعم للعصبية مكانة وأثر، ولكنها محددة ومقدرة، أي بالقدر الذي يخول للحل والربط والتنفيذ، وذلك في مجموعهم لا في جميعهم»([6]).
ونحن إن نظرنا إلى هذه الصفات التي يشترط توافرها في أهل الحل والعقد نجد أن منها ما لابد من تحققه كاملا بلا نقص، كشروط: الإسلام والعقل والبلوغ، ومنها ما لابد من تحققه ولكن بنسبة تتفاوت من زمان لآخر وتكفي في تميز أهل الحل والعقد عن سائر الناس وفي قيامهم بدورهم المنوط بهم، مثل العدالة والرأي والحكمة، ومنها ما لابد من تحققه في مجموعهم ولا يشترط تحققه في جميعهم كالعلم والشوكة، ومنها ما لا يشترط إلا في الهيئة التشريعية الداخلة في إطارهم والمختصة دون سائرهم بأمر التشريع وهي صفة الاجتهاد الشرعي، ويجب عند التطبيق عدم الوقوع في أسر المثالية؛ لأن الزمان إذا فسد فسد بفساده المجتمع، وأهل الحل والعقد يولدون من رحم هذه المجتمع، فبقدر صلاحه يكون صلاحهم، وعلي قدر فساد يكون فسادهم، وإن مَنَّ الله عليهم فازدادوا صلاحا ازداد معهم المجتمع صلاحا، والعكس بالعكس.
لذلك حاول البعض انطلاقا من قاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور، أن يضع دائرة حول الفئات التي يمكن أن ينتخب منها أهل الحل والعقد فقال: إن الصفات التي ورد ذكرها في حق أهل الحل والعقد ممكن تحقيقها في الواقع، بأن نقول إن درجة العلم تتحقق بالحصول – مثلاً – على درجة الأستاذية أو ما يناظرها، وإن أمراء الأجناد حالياً هم ولاة الأقاليم والعواصم وقادة أفرع الجيش، وإن وجوه الناس هم رؤساء القبائل الكبرى، والقضاة، والدعاة المشهورون، ورؤساء الجامعات، ومديرو الشركات الكبرى، والمتميزون في تخصصاتهم التجريبية والإنسانية من أساتذة الجامعات ومن في حكمهم، ويرى الدكتور محمد رأفت عثمان أن جماعة أهل الحل والعقد يمكن «أن تشكل من علماء الشرع ورجال الجامعات والقضاء والهيئة النيابية والنقابات وزعماء الطلاب…»([7]).
أعمال أهل الحل والعقد
تقتصر كتب الأحكام السلطانية عند حديثها عن أهل الحل والعقد على ذكر دور واحد من الأدوار السياسية المنوطة بهم، وهو دور التولية والعزل، ولقد تأثر بعض الذين كتبوا في الفقه السياسي الإسلامي من المعاصرين بهذا المسلك، فاقتصروا على ما اقتصرت عليه الكتب التي تأثروا بها، وعندما أرادوا أن يعددوا الأعمال والأدوار فتتوا العمل الواحد والدور الواحد (وهو التولية والعزل)، إلى أعمال وأدوار، فقالوا: اختيار الخليفة، والتمييز بين المتقدمين للخلافة، ومبايعة الأنفع، والعزل، واستقدام المعهود له الغائب([8]).
واقتصار كتب الأحكام السلطانية على هذا الدور لم يكن عيبا ولا قصورا ولا إخلالا؛ لأن حديثها عن أهل الحل والعقد في أغلب الأحوال جاء عَرَضاً في أثناء الحديث عن طريقة من طرق انعقاد الإمامة وهي طريقة الاختيار من أهل الحل والعقد، وما قصد الأئمة الكبار -رحمهم الله- حصر مسئوليات أهل الحل والعقد في هذا الدور، وليس هناك دليل – البتة – على أن دورهم منحصر في هذا الدور، بل إن طبيعة هذه الهيئة العظيمة تتنافي مع هذا الحصر المفتعل.
ونحن لا نخالفهم في أن التولية والعزل وما يلحق بهما يعتبران الدور الأكبر والوظيفة الأعظم لأهل الحل والعقد؛ لذلك اهتمت بذكرها كتب الأحكام السلطانية، لكن: إذ كانت وظيفة هذه الجماعة على ما هو مسطور في كتب الأحكام السلطانية هي اختيار الإمام فإنه من الممكن أن يضاف لها وظيفة أخرى تناسب ذلك أيضا، لاسيما أن حدود الولايات وصلاحياتها يؤخذ من لفظ التولية والعرف والأحوال، وهذه الوظيفة المضافة لها تعلق بالإمامة، وقد دلت عليها النصوص الشرعية، وهي وظيفة المتابعة والمراقبة لأعمال الخليفة والجهاز التابع له؛ بغرض الحفاظ على التزام النظام السياسي بالشرع وعدم الخروج عليه، وهذه الوظيفة نجد أسانيدها الشرعية في الكثرة الكاثرة من أدلة القرآن والسنة، التي تطلب من المسلمين القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك أن الحفاظ على شرعية النظام والتزامه من الأمور البالغة الأهمية، ولما كان أهل الاختيار بالوصف الذي ذكرناه عن أهل العلم؛ كان إضافة وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجانب السياسي إليهم من أنسب الأشياء.
وأهل الحد والعقد، بصفاتهم التي تقدم ذكرها، هم أليق فئة تناط بها مهام الحسبة في الجانب السياسي، ويمكن لأهل الحل والعقد أن يتابعوا ويراقبوا مؤسسة الخلافة وما ارتبط بها من المعاونين، كالوزراء وأمراء الأقاليم ونحوهم، لضمان تقيدهم بالشريعة وعدم الخروج عليها، فمن ذلك مثلاً:
1- متابعة التشريعات واللوائح والتنظيمات التي يصدرها الخليفة أو من يعاونه.
2- متابعة قيام الخليفة وأعوانه بواجباتهم الملقاة على عواتقهم.
3- متابعة علاقة الدولة بالعالم الخارجي، من حيث حالة الحرب أو العهد أو الذمة، وغير ذلك من الأمور التي يتابع فيها أهل الحل والعقد انتظام الأمور في الدولة الإسلامية والتزامها بأحكام الشرعية.
فأهل الحل والعقد – إذاً – تقع على عاتقهم مسئولية الرقابة على أعمال الحكومة([9]).
هذا بالإضافة إلى دور الشورى، فهم أهل الشورى الذين يجب على الإمام مشاورتهم ويجب عليهم أن يشيروا عليه وألا يتنازلوا عن حق الأمة في إقامة الحكم على منهاج الشورى، وقد تقع الشورى منهم جميعا، وقد يشاركهم فيها جمهور العامة وسوادهم الأعظم، وقد تنحصر في أهل تخصص معين منهم أو في مجلسشورى متولد عنهم، وذلك بحسب الحال، كما أن الهيئة التشريعية التي تمثل السلطة التشريعية نابتة في تربة مؤسسة أهل الحل والعقد، ومولودة من رحمها، ومحتمية بأحضانها.
وإذا خلا الزمان من سلطان شرعي كان على أهل الحل والعقد اختيار قاض لإقامة الحدود([10])، وتيسير إدارة([11]) البلاد إلى أن تتهيأ الظروف لإقامة الإمام، يقول الدكتور صلاح الصاوي: ” إذا شغر الزمان عن الإمام، وخلا عن حاكم يحمل الأمة على مقتضى النظر الشرعي، وأقيمت الحكومات على أساس العلمانية وتحكيم القوانين الوضعية، فالأمور موكولة إلى أهل الحل والعقد في الأمة، وهم أهل العلم وأهل القدرة، الذين يفزع إليهم في المهمات والمصالح العامة، ممن لا يزالون على أصل التزامهم بالإسلام وإيمانهم بشريعته، وإنكارهم على الخارجين عليها، ودعمهم للدعوة إلى تحكيمها.
فإذا اجتمعت كلمة هؤلاء وانتظم أمرهم حول متبوع مطاع، صار اتباعهم فريضة محكمة، وصار السعي من خلالهم لإقامة الدين واجباً متعيناً لا حيلة لأحد في دفعه، وهؤلاء حينئذ يمثلون الجماعة التي جاءت النصوص بلزومها، وحذرت من مفارقتها وتوعدت الخارج عليها.
والأصل في ذلك كله، ما تمهد في الأصول من أن السلطة للأمة، كما أن السيادة للشرع في المجتمع الإسلامي، فالأمة هي وحدها صاحبة الحق في تولية حكامها، وفي مراقبتهم، وفي عزلهم عند الاقتضاء، فإذا خلا الزمان من هؤلاء الحكام الشرعيين، عادت السلطة إلى الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد منها، وتعين عليها حينئذ أن تؤدي الأمانة إلى أهلها، وأن تعقد الراية لمن يستحقها، وأن تجمع كلمتها حول متبوع مطاع، لتبدأ من خلاله مسيرة الجهاد([12]).
دور أهل الحل والعقد في زماننا
بالعودة إلى الآيتين من سورة النساء وإلى أقوال الأئمة كالجصاص وابن العربيّ وغيرهما نجد أنّ الأصل هو طاعة أولي الأمر من العلماء والأمراء ورد الأمر العام الذي يهم الشأن العام إليهم، هذا هو الأصل الذي تنتظم به الجماعة، وهو أصل يتوافق مع صيغة الجمع في الآيتين: (يَٰٓأَيُّهَاٱلَّذِينَءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِمِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِوَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡتُؤۡمِنُونَبِٱللَّهِوَٱلۡيَوۡمِٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُتَأۡوِيلًا ٥٩) [النساء: 95] (وَإِذَا جَآءَهُمۡأَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖوَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِوَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِمِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَيَسۡتَنۢبِطُونَهُۥمِنۡهُمۡۗوَلَوۡلَافَضۡلُٱللَّهِعَلَيۡكُمۡوَرَحۡمَتُهُۥلَٱتَّبَعۡتُمُٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا ٨٣) [النساء: 38].
فأولوا الأمر على الحقيقة هم هؤلاء الكبار (أهل الحل والعقد) ولأنّ إدارة الشأن العام تحتاج رأسًا فإنّ هؤلاء الكبار ينيبون عنهم من يتولى قيادة الأمة، ويعقدون له عقد الأمامة، وهو عقد وكالة، الإمام نائب الأمة ووكيلها وأجيرها، “وتصرفه على الناس بطريق الوكالة لهم”([13])، والذي يعقد له هذا العقد هم أهل الحل والعقد، الذين يبايعون له ثم تصادق الأمة على بيعتهم في البيعة العامّة، ويظل أمر أهل الحل والعقد قائمًا فوق الإمام؛ لأنّه الوكيل وهم الأصيل، «وسبيلهم معه كسبيله مع أمرائه وقضاته وسعاته وعماله؛ إن زاغوا عن سننه عدل بهم أو عدل عنهم»([14])، فإذا شغر الزمان من الإمام (الوكيل) عاد الأمر إلى الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد (الأصيل)، وهذا هو الأمر الطبيعيّ لأمّة لم تتركها الشريعة مبعثرة.
يقول الإمام الجوينيّ في الغياثي: «وقد قال العلماء: لو خلا الزمان عن السلطان؛ فحق على قطان كل بلدة، وسكان كل قرية، أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحجا، من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره، فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ترددوا عند إلمام المهمات، وتبلدوا عند إظلال الواقعات، ولو انتدب جماعة في قيام الإمام للغزوات، وأوغلوا في مواطن المخافات، تعين عليهم أن ينصبوا من يرجعون إلى رأيه؛ إذ لو لم يفعلوا ذلك تهاووا في ورطات المخافات، ولم يستمروا في شيء من الحالات»([15])، هذا من حيث الجملة، ويتجه إلى التحديد أكثر وإلى بيان دور العلماء في هذه الأوقات؛ فيقول: «فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد»([16]).
وإذا أراد العلماء أن يقوموا بهذا الواجب الكبير وهو واجب قيادة الأمة وتدبير الشأن العام، إذا أرادوا أن يقوموا بهذا الواجب الكبير في زماننا هذا؛ فلابد أن يتدرجوا في الوصول إلى المستوى الذي يؤهلهم لإزاحة الأنظمة المحاربة لله ورسوله وإحلال أنظمة شرعية، وذلك وفق مشروع واضح المعالم بَيِّن المراحل، وعلى ضوء رؤية مشعة تبدو الأهداف من خلال نافذتها قريبةً ممكنة التحقيق، لا حلمًا بعيد المنال، وهذا المشروع وهذه الرؤية من صنعهم ووضعهم، أو على الأقل يصنعها بعضهم ويوافق عليها سائرهم.
مراحل تكوين أهل الحل والعقد
في الأوضاع المستقرة المستمرة القائمة الدائمة تتكون مؤسسة أهل الحلّ والعقد (المجلس الأعلى للدولة) باختيار الأمة، اختيارًا يضمن ألا تخترق هذه المؤسسة بعناصر لا ترتقي لمستوى أولي الأمر أهل المنة والشوكة أصحاب الشورى، وفي ذات الوقت يحقق معنيين لابد من تحققهما في هذه المؤسسة وهما: الولاية والتمثيل، فليس التمثيل وحده كافيًا في تكوينها، وليست الولاية منفردة بصلاحية التكوين، إذ لابد من اجتماع الأمرين، وعليه فإنّه يجب وضع آليات الاختيار بما يحقق المعنيين: معنى الولاية التي تكتسب بالسبق والتقدم والمنة والشوكة والفضل، ومعنى التمثيل الذي يعكسه قيام البعض عن الكل بما لا يتسنى القيام به من الكلّ، وكلا المعنيين لابد أن يأتي عبر الشورى والاختيار المبني على الشورى الحقيقية؛ فكيف يكون ذلك؟
في البداية لابد أن ينص الدستور على الشرائح التي سيتم اختيار أهل الحل والعقد منها، وعلى النسب التي تختار من كل شريحة في المجتمع، وعلى الصفات العامة الواجب توافرها في جميع الأعضاء، وعلى الصفات الخاصة بكل شريحة، وقد يختلف الأمر من بلد لآخر، ففي بعض البلدان يمكن أن يجعل للعشائر نسبة كبيرة، وفي بعضها يمكن أن يجعل للنقابات نسبة كبيرة، ولابد للمؤسسات الشرعية من نسبة كبيرة، وكذلك ممثلي الدوائر، لكنّ المهم أن يكون الدستور قد حدد الصفات العامة التي تشترط فيهم وكذلك الشروط الخاصة بكل فئة، ووضع آليات التقييم، فإذا تكونت هذه المؤسسة صار الأمر بيدها.
أمّا في يومنا هذا وفي مراحل التغيير الذي ننشدة فإنّ تكوين هذه المؤسسة – التي يجب أن تكون مؤقتة – يكون بالتدريج وتكون الأحداث المتتابعة قادرة على إفراز وإبراز وإظهار وبلورة الأعضاء الصالحين لهذا الدور، ويبدأ الأمر بتكوين نواة صغيرة تتراكم على متنها بمرور الأيام شرائح من العلماء الربانيين الذين يتصفون بالنزاهة والورع والتقوى والاستقامة والاستقلال والتجرد، ثم بمرور الأيام تنجذب إليهم أو يجذبون إليهم خبراء توقنوقراط في المجالات الأمنية والعسكرية والمعلوماتية والتخصصية، ممن يتصفون بالعدالة والصدق في حمل هم الأمة والفهم الصحيح للمشروع الإسلاميّ، وبمرور الوقت تتجلى وتترسخ المؤسسية بلوائحها وآلياتها في التوسع وفي اتخاذ القرارات وغير ذلك.
ومن الوارد بقوة أن تتعدد الأنوية، وعندئذ فما كان منها صالحًا موافقا للمشروع الإسلاميّ يجب التواصل معه والعمل على توحيد الرؤية والمشروع، عبر لقاءات وحورات علمية جادة، وقد لا تتحمل المرحلة ذلك فيقر كل فريق على حاله على أن يوضع ميثاق إسلامي يمثل دستورًا للجميع، على وفقه يقع التعاون والتنسيق والتحالف، وعلى الجميع أن يجتهد لإيجاد صيغ واقعية لحل هذه المعضلة التي لا فرار منها في هذه المراحل الشديدة الاضطراب، والمراهنة تكون على فقه الاختلاف وعلى التجرد والإخلاص، وعلى عمق الفهم الذي يفرق به الناس بين ما كان من قبيل المحكمات وما كان من قبيل موارد الاجتهاد.
شبهات وجوابها
الشبهة الأولى
لقد كان دور أهل الحل والعقد على مدى التاريخ الإسلاميّ مجرد مجموعة تقوم في الظلام بالبيعة للإمام؛ وهي بذلك تمارس الوصاية على الأمة وتحجب إرادتها وتكرس للاستبداد والتوريث.
وجواب هذه الشبهة غاية في البساطة والسهولة، وهو أنّنا لا نريد إحياء دور أهل الحل والعقد المزيفيين الذين ندينهم مثلكم ونبرأ غلى الله مما صنعوا، وإنّما الذي ننشده هو إحياء دور أهل الحل والعقد في زمن الخلفاء الراشدين، فالعهد الراشدي هو الذي تقوم به الحجة بعد الكتاب والسنة، وليس من العدل أن نحرم الأمة من الاقتداء بالنموذج الرائع الصحيح لمجرد أن ما جاء بعده من الانحرافات طال أمده.
الشبهة الثانية
أين نجد مؤسسة أهل الحل والعقد في عهد الراشدين؟ أتحدثوننا عن أوهام؟ لم يحمل لنا التاريخ شيئًا من ملامح هذه المؤسسة مثلما حمل لنا ملامح مؤسسة بيت المال مثلا.
وجواب هذه الشبهة في العودة إلى طبيعة الحياة آنذاك، فالحياة في ذاك الأوان كانت بسيطة، فكانت المؤسسات كلها بسيطة ببساطة الحياة آنذاك، حتى مؤسسة بيت المال كانت في عهد أبي بكر دار له بالسنح ليس لها قفل، إنّما النظر يكون للدور الذي قاموا به، فإذا نقل لنا التاريخ أنّهم قاموا بدورهم بشكل جماعي في اختيار الأئمة عبر الشورى في مرحلتين من الاختيار مرحلة البيعة الخاصة ومرحلة البيعة العامة، وقامول بدورهم في مراجعة الأئمة عبر الشورى أيضا في مواضع كثيرة منها على سبيل مسألة سواد العراق، إذا علمنا ذلك وعلمنا أن الحياة بسيطة إلى حد أن الإمام لم يكن له مقر سوى بيته وأنه كان يدير الشأن العام من المسجد علمنا أنّ التطوير الذي ينقل المؤسسة من الطور البسيط إلى الطور المؤسسي المعقد هو الأمر الذي فات الجيل الأول أن يقوم به؛ بسبب الفتنة التي عاجلت الأمة فأذهلتها عن كثير من الأمور الفنية التي تحصن وتحمي الأسس الشرعية، ومن الواجب علينا نحن أن نقوم بهذا الدور بما يناسب زماننا، والأمر خاضع للاجتهاد بشقيه، الاجتهاد الشرعيّ في وضع اللوائح المنظمة بما يحقق مقاصد الشريعة ولا يصادم الشريعة، والاجتهاد البشريّ في مساحة الأمور الفنية التقنية.
الشبهة الثالثة
أليس دور أهل الحل والعقد هذا نوعًا من الوصاية التي تفرض على الدولة؟ أليست صورة من ولاية الفقيه عند النموذج الإيراني الخميني؟ ومن نكاح المصالح بين الكنيسة والقصر في العصور الوسطى؟ أليست هذه هي الثيوقراطية والحكم بين الناس في الأرض باسم السماء؟
وجواب هذه الشبهة يكون بتوضيح معنى الثيوقراطية التي تمثلت في العصور الوسطى في حكم الملك باعتباره ظل الله في أرضه، وتسلط الكنيسة على أمر السياسة، وولاية الفقيه في النموذج الرافضي المعاصر، فمعناها هو أن يحكم الحاكم – سواء كان فردا او طائفة أو جهات متحالفة كتحالف القصر والكنيسة وكتحالف ملالي قم وسياسيي طهران – باسم السماء، على معنى أنّه جاء بترتيب الرب، وأن الاعتراض عليه اعتراض على ترتيب الرب، وأنّ محاسبته تكون إلى الله لا إلى الأمة؛ فأين نجد هذا في النموذج الإسلاميّ؟ إنّ الأمة هي التي تختار أهل الحل والعقد، ولا يفرضون أنفسهم عليها، كل ما في الأمر أن الدستور يحدد صفات هؤلاء الكبار لئلا يوجد في هذه المؤسسة إلا كبار الأمة القادرين على تحمل مسئوليتها، وأن هذا الاختيار يكون عبر المؤسسات التي تفرزهم بالشورى والانتخاب أيضًا؛ لئلا يتحكم رأس المال بأدواته الإعلامية في المشهد الانتخابي، وهؤلاء لا يفرضون الإمام فرضا على الأمة، وإنما يرشحون للأمة عددا تختار منهم، ويمكن أن تعرضهم واحدًا بعد آخر عبر استفتاء، فلو فرض أنّ الأمة رفضتهم جميعًا، وجب على اهل الحل والعقد أن يقدموا غيرهم، ويمكن أن ينص في الدستور – وهذا يحتمله الاجتهاد الشرعيّ – على ان أهل الحل والعقد إن أسائوا الترشيح بما يؤدي لرفض الأمة مرات معينة فإنّ هذا يسقط المؤسسة ويتوجب إعادة انتخابها، والمؤسسة التشريعية المنبثقة عن مؤسسة أهل الحل والعقد لا تفرض على الناس شريعة من عند نفسها، وإنما من خلال الشريعة، فإن خالفوا لم تنتخبهم الأمة مرة ثانية؛ فإين هي الوصاية وأين الثيوقراطية؟
وأخيرًا
إنّ الخطوة الأولى لدفع قطار المشروع الإسلاميّ هي إحياء دور اهل الحل والعقد واستعادته، وهذا هو السهل الممتنع في المشروع، سهل لأنّ أعضاء هذه المؤسسة موجودون في الأمة بكثرة، ولأنّ صورتهم في السياسة الشرعية واضحة وجلية، وممتنعة على من لا يريد، وما أكثر الذين لا يريدون! وما ذاك إلا لأنّ الطبيعة البشرية تركن لأسهل من المهام، لكن إذا أدرك العلماء أهمية هذا الواجب، وإذا تأملت في كونه واجب كبير فإنّ محاولة الفرار منه تبدوا غير لائقة بالعلماء.
ثبت المراجع
1- الإبهاج في شرح المنهاج علي مناهج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي علي بن عبد الكافي دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1404ﻫ
2- الأحكام السلطانية والولايات الدينية، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي الشافعي، ط دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ط أولى، 1405ﻫ
3- أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله (ابن العربي) دار المنار القاهرة ط أولى 2002
4- أحكام القرآن للجصاص، أبو بكر أحمد الرازي (الجصاص)، دار الفكر ط أولى 2001.
5- الإحكام في أصول الأحكام علي بن محمد الآمدي أبو الحسن دار الكتاب العربي – بيروت
6- الاستقامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية – جامعة الإمام محمد بن سعود – المدينة المنورة -الطبعة: الأولى، ١٤٠٣
7- الإسلام عقيدة وشريعة، للشيخ محمود شلتوت مطبوعات الإدارة العامة للثقافة الإسلامية بالأزهر ط 1959.
8- الإسلام وأوضاعنا السياسية، دار الفكر ط 1398ﻫ.
9- أصول الدين، لأبي منصور عبد القادر بن طاهر التميمي البغدادي (ص275)، ط2، دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
10- إعلام الموقعين عن رب العالمين – ابن القيم – دار الجبل – بيروت، ط 1973 تحقيق طه عبد الرؤوف سعد
11- الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده – جمع وتحقيق د. محمد عمارة – دار الشروق – بيروت – ط أولى 1993م
12- الإمامة العظمى عند أهل السنة – عبد الله بن عمر الدميجي – دار طيبة – الرياض – بدون ت
13- أهل العقد وصفاتهم ووظائفهم، د. عبد الله الطريقي، ط2 دار الفضيلة الرياض 2004ﻫ.،
14- تاريخ الطبري – تاريخ الأمم والملوك – أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1407ﻫ.
15- التحرير والتنوير – محمد الطاهر بن عاشور – الدار التونسية للنشر تونس ط 1984
16- تدوين الدستور الإسلامي لأبي الأعلى المودودي الدار السعودية جدة ط 1987 م
17- تفسير ابن كثير – تفسير لقرآن العظيم – للإمام الفداء الحافظ بن كثير الدمشقي، ط المكتبة القيمة
18- تفسير القرطبي – الجامع لأحكام القرآن – أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر شمس الدين القرطبي – دار الكتب المصرية – القاهرة الطبعة: الثانية، 1384ه – 1964
19- الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي – د صلاح الصاوي – دار الإعلام الدولي- القاهرة ط ثانية 1994.
20- جماعة المسلمين – د. صلاح الصاوي – دار الصفوة – القاهرة – بدون ت
21- دور أهل الحل والعقد في النموذج الإسلامي لنظام الحكم، د. فوزي خليل ط1، المعهد العالي للفكر الإسلامي 1996م.
22- الديموقراطية ونظريات الإصلاح في الميزان، الشيخ سعيد عبد العظيم.
23- رئاسة الدولة في الفقه الإسلامي – د. محمد رأفت عثمان – دار الكتاب الجامعي – مطبعة السعادة – بدون
24- سنن ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، دار الفكر، بيروت، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي
25- سنن أبي داود – أبو داود السجستاني – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – بدون
26- سنن الترمذي الجامع الصحيح أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، دار إحياء التراث العربي، بيروت
27- سننالدارمى أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهرام بن عبد الصمد الدارمي – دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية – الطبعة: الأولى، 1412 ه – 2000
28- السيرة النبوية لابن هشام – عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري – ت: طه عبد الرءوف سعد – شركة الطباعة الفنية المتحدة – بدون
29- السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار – محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني – دار ابن حزم – ط الأولى١٤٣١
30- صحيح البخاري الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه – محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري – دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي) – الطبعة: الأولى – 1422ه
31- غياث الأمم في التياث الظلم – للإمام أبي المعالي الجويني – ت: عبد العظيم الديب – مكتبة إمام الحرمين ط: الثانية، 1401ه
32- الفتاوى الكبرى الفقهية – أحمد بن محمد بن على بن حجر الهيثمي ط المكتبة الإسلامية،
33- فقه الخلافة وتطورها – د. عبد الرزاق السنهوري – مؤسسة الرسالة – منشورات الحلبي – بدون
34- كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس البهوتي، دار الكتب العلمية
35- مجموع الفتاوى تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ت عبد الرحمن بن محمد بن قاسم – مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية – ط 1416ه/1995
36- المحصول في علم الأصول محمد بن عمر بن الحسين الرازي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – الرياض الطبعة الأولى، 1400 تحقيق: طه جابر فياض العلواني
37- المستدرك على الصحيحين – أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري – دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة: الأولى، 1411 – 1990
38- مسند الإمام أحمد – أبو عبد الله أحمد بن محمد بن الشيباني – مؤسسة الرسالة – الطبعة: الأولى، 1421 ه – 2001
39- المعجم والوسيط – مجمع اللغة العربية القاهرة، مكتبة الشروق الدولية ط 4، 2005م
40- منهاج الإسلام في الحكم، محمد أسد نقله للعربية منصور محمد ماضي دار العلم للملايين بيروت ط أولى 1957 م
41- الموسوعة الفقهية الكويتية وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الكويت
42- النظريات السياسية الإسلامية، د. محمد ضياء الدين الريس ط7، دار التراث القاهرة 1979
43- نظرية الإسلام وهديه، أبو الأعلى المودودي، دار الفكر، ط 1389ﻫ.
44- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج محمد بن شهاب الدين الرملي دار الفكر بيروت
45- الوجيز في فقه الخلافة – د. صلاح الصاوي – بدون.