د. عطية عدلان يكتب: العُلُوُّ الأخير والطوفان الكبير
“وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)) (الإسراء: 4-8)،
وأيًّا ما كان زمانُ كلِّ علوٍّ من العلوين؛ فإنّ السياق في مجمله يؤكد أنّها سنة ماضية فيهم: كلمّا علو وعاثوا في الأرض المقدسة فسادًا؛ أذاقهم الله الخزي والنكال، ويؤيد ذلك هذه العبارة “القواعدية” الواردة في السياق: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا)، مع استصحاب السنة الإلهية الماضية فيهم: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ”. (الأعراف:167).
العلو الكبير
لو لم يكن للكيان الصهيونيّ من مظاهر الغطرسة والبطش والكبرياء والعلو إلا ذلك الذي يمارسه في الأرض المقدسة، من احتلال وقتل وسجن وسحل وتهجير ومطاردة، وارتكاب لمجازر متتالية ومذابح متتابعة متوالية، مع انتهاكٍ ممنهجٍ للمسجد الأقصى، وإصرارٍ على اقتحامه وتدنيسه، وقتلٍ وأسرٍ للقائمين والعاكفين والركع السجود، وتآمرٍ لفرضِ التقسيم المكاني والزماني بلا أدنى حقّ؛ لو لم يكن إلا هذا ولم يقع إلا هذا لكان كافيًا في وصم هذا الكيان بالعلو في الأرض والفساد الكبير؛ فإنّ للبيت المقدس وما حوله من الأرض المباركة حرمة جليلة؛ وإنّ انتهاك هذه الحرمة والعدوان عليها لأفدحُ جريمة، ولا ريب أنّ الأمّة الإسلامية هي المالك الحصريّ لشرف الحراسة على كل هذه المقدسات منذ الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وليس فقط منذ الفتح الإسلاميّ لبيت المقدس.
فكيف يكون الأمر وقد تغلغل العدو الصهيونيّ من خلال اتفاقيات التطبيع في أحشاء الأمة وبين أنسجتها؟! وصار يشكل بذلك خطرًا -ليس على المسجد الأقصى وحسب- بل على جميع ما هو مقدس في الإسلام بما في ذلك المسجد النبويّ والمسجد الحرام، كيف وقد أمسى بأجهزة إفساده الفاجرة قابعًا وممدًا في كافَّة المجالات والميادين، في السياسة والإعلام والتعليم والاقتصاد والزراعة، وفي كل ما هو خطير وحسّاس، وكل ما من شأنه أنْ يمثل أيّ مساسٍ به تهديدًا لأمن الأمة القوميّ وأمنها الغذائي، وأمنها المائي، بل وأمنها الدينيّ؟! ألا إنّه العلو الكبير والإفساد الخطير كما أخبر العليم الخبير.
الطوفان الكبير
ها هم عباد الله، ها هم صفوة أهل الإسلام، وعصب الأمّة الإسلامية، وجوهر أهل السنة وزبدة الطائفة المنصورة، ها هم أولاء كالطوفان المزمجر يحاصرون المحتل وينقضون عليه من كل صوب، ويفاجئونه من كل حدب، ويقطعون عليه كل طريق، ويأخذون عليه كل سبيل، ويطاردونه في كل أرض، ويهوون عليه من كل سماء، لم تشهد إسرائيل – حسبما صرح به ناحوم بارينا الكاتب بصحيفة يدعوت أحرنوت – منذ السادس من أكتوبر 1973 أسوأ من يوم السابع من أكتوبر 2023، على الأغلب لن تكون الأرقام المرعبة التي تصدر بين الفينة والأخرى عن وزارة الصحة وعن المتحدث الرسمي لجيش الاحتلال سوى جزء من الحقيقة، أخطر ما يشير إلى حجم الكارثة تلك الأعداد الهائلة للأسرى؛ فالسؤال المحير هو: إذا كانت حكومة نتنياهو قد اضطرت في عام 2011 أن تفتدي الجندي “جلعاد شاليط” من حماس بعدد من الأسرى الفلسطينيين بلغ 1027 منهم 280 من المحكوم عليهم بالسجن مدى الحياة؛ فماذا يمكن أن تقدم لتفتدي هذه الأعداد الهائلة المرشحة للزيادة؟ وكيف يمكن أن يقوم جيشها بضربة عسكرية تمثل للكيان الصهيونيّ عامة ولحكومة نتنياهو خاصة طوق النجاة؟ كيف وهؤلاء الأسرى يمثلون دروعًا بشريّة؟ فإمّا أن يقتلهم فتزداد الهوة اتساعًا بينهم وبين شعبهم المهاجر أصلًا، وإمّا أن يتركوهم فيعجزون عن توجيه الضربة الضرورية! إنّه ولا ريب ورطة شديدة للكيان تمثل للمقاومة نصرًا عزيزًا.
بين العلو الأخير والطوفان الكبير
هنا تتجلى الآثار الهائلة على الجانبين بكل وضوح، فأمّا حماس وشعبها والمقاومة الفلسطينية بعامّة فقد ارتقت في جهادها للعدو الصهيونيّ من مستوى تهديد الاستقرار إلى مستوى تهديد الوجود، ومن رتبة العمليات الجزئية إلى رتبة المواجهة الشاملة، ومن استراتيجية الدفع إلى استراتيجية التحرير، لقد وثبت المقاومة الفلسطينية وثبة عالية بهذا الطوفان، شبت بها عن الطوق، وتجاوزت بها عقدة الحسابات المعقدة، ومن المنتظر أن تعيد للعقل السياسي العربي شيئًا من الوعي الصحيح بالموقف؛ من الآن فصاعدًا لن يستقل بالقرار السياسي العربيّ هاجس الانحياز للقوة التي لا تقهر، ولن تستطيع الذهنية العربية الرسمية الفرار من سؤال مفاده: إذا كان مستقبل الكيان الصهيونيّ في خطر؛ ففيم التعلق بأهدابه؟!
وأمّا الكيان الصهيونيّ فإنّه على الأرجح لن يجازف بخوض حرب استئصالية شاملة ضد المقاومة؛ ولن يحمله غباؤه إلى التضحية بالدروع البشرية المتخذة من أبناء شعبه؛ لأنّ لغبائه هذا كوابح ضخمة وهائلة تمسك بأزمتها المعارضة الليبرالية التي تملك الشارع المنتفض بطبيعته على اليمين وعلى حكومته؛ حتمًا سيحاول أن يخوض حملة يكون الغرض الوحيد منها الدويّ الإعلامي، ولن تستطيع إسرائيل من اليوم فصاعدًا أن توقف الزحف على المطارات من الراغبين في الفرار بأنفسهم من بلد غير مستقر ووطن لا يتوفر لهم فيه الحدّ الأدنى من الأمن، وهم كما وصف القرآن: “أحرص الناس على حياة”.
ما وراء الطوفان الكبير
وأخيرًا فقد أسقط الطوفان أوهام الانهزام، وخرافة الخنوع والاستسلام، هنا وبالقرب من الأرض المباركة قيل لبني اسرائيل: “ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ”، لكنّهم لم يفهموا أنّها سنِّة إلهية، وها هم أبناء الإسلام قد فهموها والتقطوها وانطلقوا بها؛ قطعًا سيعيدون الفتح ولو بعد حين، وقطعًا سيكون لهذا الطوفان أثر على الجيل العربيّ والإسلاميّ كله؛ “والله غالب على أمره”.