ربما لم يَنَلْ (ربيع المدخلي) من الشهرة طوال حياته مثلما ناله يوم مماته؛ لكثرة التناول والتداول للخبر وما احتفّ بالخبر من عبارات التشييع المشحونة بالشماتة ، وكأنّ الأزمة انحصرت في شخص مات فماتت بموته فكرته، وأفَلَتْ بأفوله فتنته، ولو كانت الأفكار تموت بموت صاحبها لماتت الدعشنة والجلافة العقدية بموت الأعرابيّ الجلف حرقوص البجليّ (ذي الثديّة)، فربما لم يخطر ببال الإمام عليّ يوم النهروان عندما قضى على جيش ذلك المأفون فلم يبق منهم إلا تسعة أجلاف غلاظ؛ أنّه يومًا سيلقى الشهادة على يد عبد الرحمن بن ملجم الخارجيّ، ولم يخطر ببال الأمة أنّ الفكرة دخلت من يومها في رحم (الزمان!) لتولد في كلّ قرن مرة أو مرتين، فهلّا توجهنا إلى الفكرة ودرسنا أبعادها وظروف ميلادها وسبب مرضها؟ ثم قمنا بوصف الدواء الذي يقضي على الداء؟
طبيعة الداء وأصل الدواء
ليس بالشتم واللعن والتسفيه والتحقير تُقابَلُ مثلُ هذه الظواهر؛ لأنّها – فيما يبدو وبحكم طبيعتها – تقتات على التشنجات وتتغذّى عليها مثلما تتغذى الخنازير على ما يلقيه الخلائق من زبالتهم، إنّ الغلو مرض فكريٌّ وسلوكيٌّ عنيد، قد تعمد إلى استئصاله بالجراحة فلا تزيده المقصّات الحادة إلا انتشارًا واستفحالًا؛ فلا ترى حلّا للأزمة في عمومها إلا بالعودة إلى الإجراءات الوقائية الاحترازية الصارمة؛ محتسبًا عند الله ما قد أفلت فلم يعد بالإمكان تداركه، والغلو قد يكون بالتكفير والخروج، وقد يكون بالإرجاء والاستكانة، قد يكون بالإفراط وقد يكون بالتفريط، بالإفراط في التصور والتصرف، أو بالتفريط فيهما، لذلك فإنّ الإسلام الحقّ وسط بين المتناقضات، وهذا بعض المعنى الذي تنطوي عليه الآية: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).
من أين جاء هذا الفكر؟
تكمن إشكالية الاتجاه الفكريّ الموسوم بالمدخلية أو الجامية في إعماله لأصل السمع والطاعة للحاكم بغلوّ شديد، وهذا لا وجود له إلا في الفكر الكنسيّ في العصور الوسطى الأوروبية، عندما عقدت الكنيسة نكاحها على القصر؛ ليستمدّ من سلطانها على وجدان الجماهير شرعيته، وتستمدّ هي من سطوته ونفوذه صلاحية الانتشار والتغلغل في قلوب الجماهير، وبموجب هذا العقد وبموجب نظرية (السيفين) المسؤولة عن تنظيم العلاقة بين السلطتين الدينية والزمنية؛ كان على الكنيسة أن تدعو الناس للسمع والطاعة للإمبراطور أو للملك، بغضّ النظر عن موافقة ذلك لمنهج الله أو مخالفته؛ بزعم أنّه جاء بترتيب الربّ، وأنّ الاعتراض على ما جاء بترتيب الربّ اعتراض على الربّ، ومما لا يعلمه كثير من الناس أنّ هذا الأصل كان من الرسوخ والتمكن إلى حدّ أنّ اللوثرية والكلفنية رغم تحررهما من كثير من قيود الكنيسة الكاثوليكية في روما لم يتحرّرا من هذا الأصل، ومن راجع أقوال مارتن لوثر وكلفن بهذا الصدد تأكد له أنّ البروتستانتية التي ولدت من رحم موجة إصلاحية تحررية لم تستطع أن تتحرر من هذا القيد.
أمّا الفقه السياسي الإسلامي فهو بريء من هذا الهذيان براءة المؤمنة المحصنة من البهتان، صحيح أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالسمع والطاعة للأمير، ونهى عن الخروج والعصيان، ولكنّ أمره بالسمع والطاعة كان مقرونًا بشرط الموافقة لمنهج الله، وجاء الشرط مصرّحًا به في أكثر من حديث، مثل: (إنّما الطاعة في المعروف)، ولعل الأمر الذي جعل هؤلاء القوم يتلبطون في وحل هذه المعضلة ويتخبطون في زقاقاتها الضيقة أنّهم لم يدركوا الحكمة من كثرة أحاديث السمع والطاعة، فالواقع أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخشى على أصحابه الخنوع للظالم بقدر ما كان يخشى عليهم التمرد على الحاكم؛ لأنَّ العرب لم يتربوا في بيئتهم البدوية الساذجة على الطاعة لنظام يحكم ويفرض سلطانه، والصحابة عندما أسلموا عرفوا الطاعة لله ورسوله وتربوا عليها، فهل سينتظمون في الطاعة لمن يخلفون رسول الله في الشأن العام للأمة الإسلامية وهو ليس معصوما ولا يوحى إليه؟ هذا هو السبب لا غير.
غياب دور العلماء سبب استمكان الداء
وإذن؛ فنحن بحاجة إلى محاصرة الفكرة الشاذة بالفكر العميق والفقه الدقيق، وإلى التخلّي عن ثقافة التشنيع والتبديع لصالح الانتصاب لنشر الفكرة الصحيحة والعقيدة السليمة، كما أنّ الأمّة بحاجة ماسّة إلى الاهتمام الجادّ بفقه السياسة الشرعية؛ فإنّ المتأمّل في الاجتهاد المعاصر يتبين له بالنظرة العابرة أنّه انجفل عن ميدان السياسة؛ فلم يعطه من الاهتمام ما أعطاه للأبواب الأخرى سواء منها ما كان من قبيل الشعائر أو من قبيل المعاملات والشرائع، وهذا خلل كبير لا مبرر له، نطمع في أن نرى في الفترة القادمة موجات هجرة وانزياح علمائية باتجاه مساحات السياسة وما يلحق بها من أبواب أراها ضرورية ولاسيما على خطوط التماس مع الحضارة المعاصرة، وإذا كان العلماء هم (رمانة الميزان) فإنّ الشريعة هي الميزان، ومن ثمّ فإنّ حضور الشريعة وحضور علماء الشريعة يضمن حصول الوزن بالقسط، وإنّ غياب أحدهما يعني اختلال الموازين؛ فيا علماء أمتنا حيّ على الاجتهاد في هذه المنطقة الساخنة.
التراث بين القديم والأقدم
أعترف بأنّ لدينا إشكالية في بعض كتب التراث، التي برغم عظمة مؤلفيها وجلالة قدرهم أصّلت بصورة أو بأخرى لبعض هذه الأفكار، وهي كتب تنتمي إلى مرحلة ما بعد عصر التدوين، فيها الكثير النافع والقليل المنطوي على علل، وعلاج هذه الإشكالية يكون بالعود إلى الأصل، وهو الكتاب العزيز والسنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ فإنّ الانطلاق منه إلى ما بعده يضمن فهمًا سليمًا وفقهًا قويمًا، ويقي من الوقوع في براثن الانحراف الفكريّ، ولعلّ السنة السياسية تحديدًا هي المقصود الأول من حديث العرباض بن سارية مرفوعًا: (… عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ …)، ولعلنا إن أفلحنا في تحصين الجيل من فقه الدعشنة وفقه الاستكانة والتطبيل استغنينا بذلك عن التبرع بالشتم والتطوع بالتشنيع على أشخاص ربما لم ترتق شخصياتهم إلى المستوى الذي يشغلنا بهم سواء طواهم الموت أو أبقاهم ما تبقى لهم من أجل.