الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
قرأت حديث النقّاد عن خطبة الشيخ بلال الرفاعي؛ فدفعتني الرغبة في الوقوف على الحقيقة إلى سماعها، فاستمعت إليها، في البداية أحبُّ أن أسجل انطباعي الذي لازمني من أول الخطبة إلى آخرها عن الشيخ بلال، فإنّ الرجل يتحدث بلهجة صادقة، ويبذل النصح بلا رياء ولا غرض، وينشد الخير لأمته ولبلده؛ وما هذا على رجل من آل الرفاعي بغريب ولا عزيز، فهم أهل العلم والتقى وبيت الدعوة والتربية، وهم الذين جعلوا بيوتهم ومحاضنهم التربوية قبلة للمؤمنين طوال عهود الاستبداد؛ فما يستباح عرضهم لزلة ولا يُعَرَّض بسمعتهم لسقطة، لكنّ الحقّ أحقُّ أن يُتَّبع.
تغريد خارج السرب
تحدث الشيخ حديثًا قارن فيه بين نتائج العمل بالمشروع الإسلاميّ ونتائج العمل بمشروع الدولة الوطنية القطرية، وربط حديثه بالأحداث التي تجري اليوم بين أهل السنة والطائفيين، وكأنّ هذه الأحداث سبَّبَها إعلان الرئيس أحمد الشرع إقامة النظام الإسلاميّ وتطبيق الشريعة، بينما الذي جرى ويجري -وسيظلّ يجري ما لم يحسم الأمر بإجراءات صارمة- هو أنّ الطائفيين من العلويين والدروز وقسد وغيرهم لا يريدون دولة مستقرة -في أيّ صورة من الصور- لا يكونون فيها في الذروة التي وضعهم فيها الاستعمار الفرنسيّ ثم الهيمنة الأمريكية والاحتلال الإسرائيليّ، فلا مساغ لحشر هذه المقارنة في سياق لا علاقة له بها ولا علاقة لها به، ولا مفرّ من أن يواجه العلماء السلطة الحالية بالخطأ الفادح المتمثل في التعجيل بإيقاف المسار الثوريّ وتعطيله والاكتفاء بالمسار السياسيّ، وبضرورة استدراك هذا الخطأ الفاحش بعدالة ناجزة تقضي على جيوب الفتنة ومعاقل الثورة المضادة، والتوقف عن مدّ خط العفو والتسامح – الذي حتمته ضرورات المعركة وقتها – ليشمل رؤوس الفتنة الذين لم يسلموا سلاحهم عنادًا ولم ينصاعوا للدولة استقواءً بأعدائها، وإذا كانت سوريا الدولة ضعيفة لا حيلة لها فإنّ سوريا الثورة لا تزال قوية فتيّة تملك الكثير من أوراق الضغط تستطيع أن تدير بها اللعبة مع كل من يريد التلاعب بمصير سوريا.
وصفة مجربة ولكنّها فاشلة
ومع ذلك لم يستطع الشيخ أن ينعت لنا علاجًا ناجعًا لمشكلة الطائفية التي سببتها الأقليات المارقة عن الملة، فهل نسي الشيخ – إذ ينعت لنا الدولة الوطنية حلًّا – أنّ هذه (الوصفة!) هي التي فرضها الاحتلال الإنجليزي والفرنسي (المباشر) ثم الاحتلال الأمريكي (غير المباشر) على بلادنا العربية والإسلامية؛ ليفرقها شيعًا، كل شيعة تعلي من شأن جاهليّاتها القديمة، كالفرعونية والبابلية والآشورية والفينيقية وغيرها؛ ليتذبذب ولاء المسلم بين الولاء للإسلام والولاءات الموزعة بين جاهليات ضاربة في أعماق التاريخ؟ أم إنّه نسي أنّ (سوريا الأسد) كانت تعلن أنّها دولة وطنية، مثلما تعلن مصر – دولة العسكر – أنّها دولة وطنية، لكنّ أهل السنة في سوريا كانوا مواطنين درجة ثانية وثالثة بعد الأقلية العلوية، والمسلمين في مصر لايزالون يطمحون في أن يعاملوا من الدولة كما تعامل الأقلية المسيحية؟
إنّ الدولة القومية الوطنية دولة أوربية أنشأها الفكر الأوربيّ الذي لم يجد غيرها ليخلص من إشكالية الازدواجية السلطوية وتسلط الكنيسة على الدولة وعلى الحياة السياسية، تلك الإشكالية التي لم تكن عندنا يومًا من الأيام، وعندما أرادت أوربا أن تصَدّر لنا تجربتها نفضت عنها كل ما يرجى منه النفع، وركبت فيها كل ما ينتظر منه الأذى والضرر، وآية ذلك أنّ الغرب اليوم يعمل بارتياح شديد في خطة إعادة تقسيم المقسم؛ لأنّ الدولة الوطنية التي صدّرها لنا تتيح له ذلك بما اشتملت عليه من تموضعات غير صحيحة للطائفية والإثنية، ومن حدود ملتهبة وملغومة بين الدول (الوطنية).
روسّو والعقد الاجتماعي
أمّا عن جان جاك روسّوا وعن عقده الاجتماعيّ وعن الدولة التي أنشأها فكره فهذا موضع البيان؛ لئلا نُلَبِّسَ على الناس دينهم، فمن لم يعرف هذا الرجل – الذي يُعَدُّ كتابُه العقد الاجتماعي إنجيل الثورة الفرنسية – فإنّه من الجهة الفكرية بدا متناقضاً غاية التناقض في نظريته؛ بسبب التنازع بين مبدأ الحقوق الفردية ومبدأ الإرادة العامة؛ لذلك لا تعجب إذا رأيت فكره الذي يدعو إلى الحرية يؤسس لنشأة العبادة الرومنسية للجماعة؛ مما حدا ببعض الكتاب إلى الهجوم الشديد عليه؛ بسبب أنه: “ليس في كتاباته كلها على الإطلاق أية كتابة يمكن ردها إلى مذهب متسق”، أمّا العقد الاجتماعيّ – الذي طوره بعد جون لوك وتوماس هوبز والذي يُعَدُّ الفكرة الرئيسية المحورية في كتابه – فهو عقد افتراضيٌّ، يبحث عن المسوغ الفكريّ لقيام الدولة، فيفترض أنّ الناس كانوا في حالة فوضى بلا دولة ولا حتى مجتمع سياسي، ثم تعاقدوا على أن يتنازلوا عن بعض حقوقهم وحرياتهم في سبيل قيام السلطة التي تنظم حياتهم، هذا العقد لا وجود له في التاريخ، وقد أثبتت الدراسات السياسية المتأنية بطلانه، فإنّ الثابت أنّه “لم يوجد البشر قط في حالة سابقة على التعاون الاجتماعيّ، وفكرة أنّهم وجدوا ذات مرة على شكل أفراد معزولين يتفاعلون عبر عنف معنويّ (هوبز) أو جهل مسالم ومتبادل فيما بينهم (روسو) ليست صحيحة على الإطلاق … وفي البشر نزعة فطرية لإيجاد الأعراف أو القواعد واتباعها؛ لأنّ المؤسسات في جوهرها قواعد تقيد الحرية الفردية”، وما دفع روسّو ولا من سبقه إلى الذهاب إلى هذه الفرضية إلا الهروب من إسناد نشأة الدولة إلى سبب دينيّ شرعيّ، وقد دفعهم إلى ذلك شرطية تاريخية ضاغطة على الفكر الأوربيّ – الخاضع دومًا للشرطيّات التاريخية والواقعية – وهي الرغبة في الخلاص من سلطان الكنيسة التي كانت تمارس الاستبداد والعسف، وما بنا نحن المسلمين من حاجة إلى شيء من ذلك اللغط.
ما هي الدولة الوطنية؟
وما دام الحديث عن الدولة الوطنية جاء مرتبطًا في كلام الشيخ بفكر روسّو؛ فالحقيقة أنّ وصف الدولة المعاصرة بالوطنية والسكوت عند ذلك يُعَدُّ – قُصد أو لم يُقْصَد – مخاتلة فكرية؛ لأنّ الدولة المعاصرة التي أنشأها الفكر المعاصر هي الدولة المدنية قبل أن تكون القومية أو الوطنية أو الحديثة، وأهم وأبرز وصف لها هو المدنية، وعلى الرغم من أنّ لفظة المدنية تحتمل معاني متعددة منها ألا تكون الدولة عسكرية، وأن تكون حديثة تأخذ بأسباب العلم، إلّا أنّ المصطلح غير اللفظ، ومن راجع تاريخ نشأة المصطلح ونشأة الدولة في الغرب تأكد له أنّ المقصود به بالدرجة الأولى – إن لم يكن حصريًّا – هو الدولة التي لا سلطان فيها للدين، والواقع أنّ الدولة المدنية التي ظلّت صارمة في تنحية الدين عن الدولة قد تجبرت وتألهت وسحقت المجتمع والفرد، كما يقول أحد مفكري الغرب: “الدولة ذات السيادة تعتبر القدرة الفاعلة في بناء نفسها … وهو ما يمكن قياسه على الخلق الإلهي من العدم، وتشترك السيادة في مضامينها الكاملة مع التوحيد في كثير من الصفات، أولها: كلية القدرة؛ فكل الأشكال السياسية متاحة لها، ثانيها: أنها تملأ الزمان والمكان؛ فهي حاضرة بالقدر نفسه في حياة الأمة وفي كل موقع ضمن حدودها، ثالثها: أننا لا ندركها إلا من خلال ما تنتجه”، وهذا ما سجله كثير من المفكرين في الغرب والشرق.
وإذ كانت الحداثة هي التربة الفكرية التي نشأت فيها الدولة المدنية؛ فإنّ الحداثة ضدّ الدين بشكل كامل، فإنّ “الأيديولوجية الغربية للحداثة – والتي يمكن أن نسميها بالحداثية – قد ألغت فكرة الذات وفكرة الله المرتبطة بها … يقول أنصار الحداثة: إنّه لا المجتمع ولا التاريخ ولا الحياة الفردية تخضع لكائن أسمى يجب الإذعان له … الفرد لا يخضع إلا لقوانين الطبيعة”( )، وإذا كانت سيادة الإنسان على الطبيعة هي القيمة الأسمى في الحداثة فإنّ الدولة المدنية تحلّ سيادة الإنسان محلّ سيادة الرحمن.
ولقد صارت الدول القومية الوطنية في ظل النيوليبرالية كالزنازين المغلقة، فالحاصل أنّ: “الرؤية النيوليبرالية للعولمة محدودة إلى حد بعيد بحركة رأس المال والبضائع، وتزيد فعلا الحواجز أمام التدفق الحر للبشر والمعلومات والأفكار، وقد تضاعف حجم حرس حدود الولايات المتحدة الأمريكية ثلاث مرات تقريبا منذ التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا)، وهذا ليس مدهشا على الإطلاق؛ إذْ لو لم يكن ممكنًا أن تسجن فعليا أغلبية الناس في العالم في معاقل بائسة فلن يكون ثمة حافز لدى شركة Nike أو The Gap لنقل الإنتاج هناك بادئ ذي بدء، مع إتاحة حرية الأشخاص سينهار مجمل المشروع النيوليبراليّ … فالإنجاز الأساسيّ للدولة/الأمّة خلال القرن الماضي كان تأسيس منظومة متجانسة من الحواجز ذات الحراسة المشددة حول العالم”.
ما علاقة التدرج بما يقول الشيخ؟
أمّا التدرج في إقامة الدين وتطبيق شريعة ربّ العالمين فلا علاقة له بما طرحه الشيخ، فلا يكون تدرجًا في إقامة منهج الله أن يقف عباد الله على الأرض التي يقف عليها أعداء الله، وأن يتخذوا من قواعد الجاهلية منصّات للانطلاق، هذا ليس منطلقًا يحالفه التوفيق ويرافقه السداد، إنّما هو منطلق للخبال وإرباك المجال، إنّ التدرج الحقيقيّ هو الانتقال بالأمة خطوة خطوة نحو الرشد المنشود، عبر آليات وتقنيات لا تقلل من شأن الدين عندما تقرر تطبيق ما نقدر على تطبيقه وتأجيل ما لا نقدر عليه حتى نتمكن من ذلك، منها البدء بإقامة النظام الاجتماعي وبناء مؤسسات المجتمع القوية المستقلة، ولاسيما العلمائية والتربوية والدعوية، والبدء بتطبيق أحكام العدالة الانتقالية الناجزة الصارمة، والشروع في تطبيق الأحكام المحققة للعدالة الاجتماعية انطلاقا من الفقه المتعلق ببيت المال وغيره، وهكذا، وإنّني لممن يقول بالتدرج ولكن ليس انطلاقًا من قواعد جاهلية، أمّا الإجراءات والأساليب فهذا ما ينبغي أن تقام له الندوات.
هل صحيفة المدينة عقد اجتماعيّ؟
يشيع بين كثير من المثقفين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقام الدولة في المدينة على عقد اجتماعيّ، ويذكرون في هذا السياق صحيفة المدينة، وقد نحا الشيخ في خطبته هذا المنحى، فهل هذا الطرح صحيحًا؟ الواقع أنّه طرح لا يثبت أمام المناقشة إلا بقدر ما يثبت الهباء الخفيف السخيف أمام الريح العاتية، ومع أنّني أميل إلى تصحيح الصحيفة بمجموع طرقها وبأنّها كما قال شيخ الإسلام: “معروفة عند أهل العلم”، فإنّني أرى أنّ اعتبارها عقدًا اجتماعيًّا ضرب من ضروب السخف؛ لأنّ العقد الاجتماعيّ يسهم في إنشائه المواطنون بكافّة طوائفهم، وما كانت صحيفة المدينة كذلك، إنّما كانت شرعًا مفروضًا، وما على الرسول إلا البلاغ، وقد اشتملت الصحيفة على مادة جوهرية تكررت مرتين وهي أنّ ما اختلف فيه أهل المدينة كلهم فمرده إلى الله وإلى محمد، وليس إلى ما اتفق عليه المواطنون، والتوصيف الشرعيّ الصحيح هو أنّه عقد ذمة بدون جزية، قال الشافعيّ رحمه الله: “لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَمَّا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَادَعَ يَهُودَ كَافَّةً عَلَى غَيْرِ جِزْيَةٍ.
وأخيرًا.. لو كان الشيخ يعرف شيئًا – ولو قليلًا – عمّا قيل في شخص روسو وأخلاقه لما لطخ منبر رسول الله ولا عكر أجواء بيت الله بسيرته، فلقد سجل أحد الأكاديميين – والعهدة على الراوي – قائمة بعيوب روسو الأخلاقية جاءت على هذا النحو المقرف: “مازوكي، محب للمظاهر، نوراستيني مصاب بوسواس مرضيّ، ممارس للعادة السرية، شاذ جنسيا شذوذا كامنا، لحوح، عاجز عن الحب الأوبويّ، شديد الارتياب في الآخرين، نرجسي، شديد الانطواء، يملؤه الشعور بالذنب، جبان لدرجة مرَضِيّة، مريض بالسرقة، صبياني السلوك، سريع الاستثارة، بخيل”( )، وإنّنا لفي حاجة إلى هدي محمد بن عبد الله لا إلى فكر روسو.