عند هذا الحدّ ينفد الصبر الإنسانيّ؛ لم يعد في حيّز الإمكان تصور ما يجري، كيف يصل الأمر إلى هذه الدرجة من القسوة واللاإنسانية؟ الناس يتزاحمون ويتدافعون والجوع يدفعهم صوب الطعام، وليس منهم أحد يؤمل العودة إلى خيمته الرثّة إلا بقدر ما يؤمل المحكوم عليه بالإعدام العودة إلى السرير الوثير، اليومَ صار كثير من الصهاينة المشاركين في الاحتلال وفي اغتصاب الأرض وتهجير أهلها يفزعون من هول ما يجري، ويجوبون شوارع تلّ أبيب معبرين عن فزعهم بمظاهرات ضدّ حكومة وأدت الإنسانية كلها بقتلها لأطفال غزة، الرُّحَماء من عباد الله راحوا من يأسهم يطرحون ما لديهم من مساعدات في عرض البحر؛ رجاء أن يكون الموج الموّارُ أرحمَ من أناس رابضين على تلال القسوة لا يتحلحلون؛ فهل ستستجيب حماس لهذا الضغط الذي يمارس عليها بأخسّ الأساليب وتتنحى عن حكم غزة وتسلم سلاحها؟ هل ستستسلم لإرادة المجتمع الدوليّ فيما سمي بإعلان نيويورك؟
مَن الإرهابيُّ المقاومةُ أم الكيان؟
واعجبًا من هذه الصفاقة الدولية! وواعجبًا من الصفاقة عندما تكون دولية! في الوقت الذي تدعم فيه أمريكا وحلفاؤها في الغرب دولةَ الاحتلال بالمال والسلاح -وبالفيتو في المواقف الفاصلة- يُطلَب من المقاومة أن تسلّم سلاحَها، وفي الوقت الذي يَغتصب فيه الصهاينةُ أرضَ الفلسطينيين يريد المغتصب ومَن وراءه من عصابة الاغتصاب (الدولي!) أن يفرضوا إرادتهم على هذه الأرض؛ فينَحُّوا من شاؤوا ويُحِلُّوا مكانهم من شاؤوا، أين هو العدل إذَنْ وأين هي الإنسانية؟ أهذا هو ما يسمى بالنظام الدوليّ؟ إذا كان هذا نظامًا فما أجدرَ الفوضى وما أجداها على الدنيا! لقد اتضح واستبان أنّ المراد هو الإذلال والتركيع، فأمّا المقاومة فلن تركع ولن تستكين، فمن أراد أن يركع ويخشع ويلين ويستكين فطريقُهُ مفتوحٌ وسبيلُهُ ممهود، لكنْ عليه أن يعلم أنّه في طريق التمهيد والتوطيد للمشروع الصهيونيّ الكبير.
الطوفان هو الحلّ
وقد أَعْلَنَ الإعلانُ وبَيَّنَ البيانُ أنّ المعتدي هو الطوفان؛ وإِذَنْ فالحلّ هو الطوفان، لا سبيل للأمة إذا نَشَدَت الخلاصَ من هذا الاحتلال الغاشم إلا أن تمدّ الطوفانَ على استقامته، وآية ذلك أنّنا تعودنا من سلوك الاحتلال وداعميه أنّ المقاومة الحقيقية هي التي تقُضّ مضاجعهم، وأنّهم لا يرهبهم ويزلزل عروشهم إلا المقاومة الصادقة، وهنا يجدر أن نقول للذين لا يزالون يرتابون في قرارات المقاومة: إنّ المقاومة هي المقاومة ولا صوت يعلو فوق صوتها، هي التي تعرف متى تُقْدِم ومتى تُحْجِم، وهي التي تُقَدِّرُ بمعاييرها وتقيس بمقاييسها وتدرك بخبراتها المتراكمة وتجاربها الحية حجم المصالح والمفاسد، وقدر المغانم والمغارم.
عليلٌ من تُعْيِيه معرفة الطبيعة التي يصطبغ بها هذا الصراع، وكَلِيلٌ من لا يراه صدامًا حتميًّا بين حقٍّ واضحٍ كفلق الصبح وباطل مظلم كغسق الليل، عليلٌ وكليلٌ من ينظر إلى ما يجري فيحار فيه ويحاول أن يجد له في معايير الواقع البليد مقياسًا ينطبق عليه، إنّ ما يجري ليس نزاعًا بين قوتين على أمر تختلف فيه الحسابات والتقديرات، وإنّما هو صراع بين حقٍّ صريح وباطل صريح، بين مقاومة تدفع العدو عن الأوطان التي اغتصبها والمقدسات التي استباحها، ومحتلٍّ غاصبٍ غاشمٍ لا حق له في شيء من ذلك كله؛ لذلك لا تقاس النتائج والمقدمات بالمقايس ذاتِها التي تُقاس بها سائر الصراعات، وغالبًا ما تتسع زاوية النظر لمن يروم باعتدال تقييم النتائج والحكم بموجبها على المقدمات؛ فلا تقف عند الحسابات الحسّية الضيقة، بل تتجاوزها إلى آفاق من المعاني التي تحييها المقاومة في الأجيال.
المآلات بين المغارم والمغانم
لا نستبعد أن يقع شيء مما نخشاه، ولو استبعدناه فلن نغير شيئًا من قدر الله، ولو أنّ غَزَّةَ فَنِيَتْ عن آخرها -لا قدر الله- وأُجهضتْ بالتبعيةِ المقاومةُ -لا سمح الله- فلن يقلل ذلك من نصر الله؛ ذلك لأنّ حقيقة الانتصار لا تنحصر في صورة واحدة “الحسم العسكريّ”، فإنّ الثبات إلى الممات نصر يلهم الأجيال، وإنّ دماء الشهداء التي بذلت من أجل تحطيم الأوهام وتكسير الأصنام وإسقاط الأساطير وهدم جدار الخوف والوهن مقدمة أكيدة للنصر الكبير، ومن أراد أن يعرف قدر وحجم ووزن ما حققته المقاومة من إنجاز حقيقيٍّ فليصرف نظره وتقديره إلى قدر وحجم ووزن التغَيُّرات التي أحدثها فِعْلُ المقاومة في نفوس المسلمين والكافرين على السواء. لقد رفعت الأحداث هِمَمَ المسلمين وألهمتهم من المعاني ما فقدوه تحت مطارق الانقلابات والحروب الأهلية، وأرعبت الكفار المعتدين وكشفت تهافتهم وزيف ادعاءاتهم، وأسعدت الكثيرين من المغيبين في العالم بمعرفة الحقّ الذي تتوق إليه نفوسهم، إنّها انتصارات وليست نصرًا واحدًا، ومع ذلك فإنّنا نرجو ما ليس على الله بعزيز.
إنْ قلت إنّ المقاومة في غزة بطوفانها هذا اقتلعتْ الأساطير الإسرائيلية من جذورها، أو قلت إنّها بضرباتها الرشيقة المتتابعة دَقَّتْ مسمارًا في نعش النظام الدوليّ المتهالك، أو قلت إنّ جملة الأحداث -من لدن طوفان الأقصى إلى هذه الأيام الأكثر بشاعة- تمثل صيحة كصوت الحادي أو كنداء المؤذن، سيكون لها سريان في جيل أقعده اليأس كسريان مادة الحياة في الشجرة الجرداء؛ إن قلت شيئًا من ذلك أو تجشمت قول ذلك كله؛ فلن تكون راكبًا عودًا من حطب، ولا ممتشقًا بالزعم سيفًا من قصب، لقد ارتقت المقاومة في جهادها للعدو الصهيونيّ من مستوى تهديد الاستقرار إلى مستوى تهديد الوجود، ومن رتبة العمليات الجزئية إلى رتبة المواجهة الشاملة، ومن استراتيجية الدفع إلى استراتيجية التحرير، ولقد وثبت وثبة عالية بهذا الطوفان، شبت بها عن الطوق، وتجاوزت بها عقدة الحسابات المعقدة.
هل ترحل حماس وتخبو المقاومة؟
إن رحلت حماس -لا قدر الله- فلن تموت المقاومة، لأنّ حماس حركة والمقاومة فكرة، والفكرة ليس من طبيعتها أن تموت، فقد تذهب الحركة تاركة وراءها فكرة محفورة في قلوب الأجيال كالجذوة المتقدة، لا تلبث أن تستعر وتتوهج إذا وجدت من يغذيها ويمدها، ولقد ذهب أصحاب الأخدود فما ماتت فكرتُهم، ولا أثموا إذْ فنوا من أجل أن تحيا الفكرة؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار.
المصدر: الجزيرة مباشر