في كتابه “دور رفاعة الطهطاوي في تخريب الهوية الإسلامية”، يتهم الدكتور هاني السباعي الشيخ الطهطاوي تهما جائرة مجحفة، وهو إذ يهاجمه يشعر المتلقي أن رفاعة سبب طوام البشرية كافة، فها هو في مقدمة كتابه يقول: “لقد تعلمنا ونحن في مراحل التعليم الأولى أن هناك شيخا أزهريا من صعيد مصر اسمه رفاعة الطهطاوي ابتعثه محمد علي حاكم مصر إلى فرنسا.. لكن مرت السنون وتغيرت مفاهيم الصبا عن الرجل الفذ وانكشف المخبوء وبان المستور وظهرت حقيقة رائد النهضة المصرية والعربية الحديثة، تلكم الحقيقة الغائبة أو المغيبة عمدا حتى وقتنا الحاضر. ويرجع الفضل إلى الله أولا في تصحيح المفاهيم عن ما يسمى برواد النهضة المصرية والعربية الحديثة ثم إلى مؤلفات الغيورين من أهل الإسلام الذين كشفوا سوأة أفكار رواد النهضة الحديثة الذين اصطنعوا على أعين الغرب وتربوا على موائدهم.. وهم مجرد مرتزقة في مجال الفكر والأدب تعمل بالأجر لحساب الغير”.
وإزاء كلام الدكتور السباعي أقول: كان رفاعة الطهطاوي -وما يزال- ملء السمع والبصر، واحدا من أبرز رواد النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر، فجهوده في ميادين العلم والتربية والصحافة والترجمة لا ينكرها إلا جاحد، هذا في الوقت الذي لم يسمع به أحد عن الدكتور السباعي، ولا نعرف على وجه الحقيقة ماذا قدم لدينه ووطنه وأمته؟!
ثم يغالط الدكتور السباعي نفسه حين يتهم رفاعة بأنه قد صنع على أعين الغرب وتربى على موائده، في الوقت الذي يقيم فيه الرجل بلندن إقامة كاملة، فهل يسوغ لنا ذلك أن نقول إنه هو الآخر قد تربى على موائد الغرب مصنوع على أعينهم وبأياديهم القذرة لتشويه الصورة الناصعة لعلمائنا الوسطيين ذوي الفضل والهمة والعطاء، وتقبيحها في نفوس شبابنا وأجيالنا؟!
كذلك من العيب بل من الفحش أن يصف الدكتور السباعي رفاعة وغيره من الرواد الذين أسهمت جهودهم في الارتقاء بأوطانهم وأمتهم، بأنهم مرتزقة يعملون لحساب غيرهم بالأجر!، وهذا اتهام شنيع، ولا أجد ردا على تهمه المتهافتة إلا ما قاله رفاعة في خطبة كتابه، وهو إذ يبدي حسرته على ما شاهده في فرنسا من تقدم في العلوم والفنون والصنائع، وخلو بلاد المسلمين منه، يقول رفاعة: “ولعمر الله أنني مدة إقامتي بهذه البلاد في حسرة على تمتعها بذلك وخلو ممالك الإسلام منه”. فهل يحمل المرتزقة العملاء مثل هذا الحب لبلادهم؟!
ولم يدرك الدكتور السباعي أيضا أن المرتزقة في مجالات الفكر والأدب الذين هم صناعة غربية خالصة لا يقولون الحق، بل يعادون أهل الحق عداء ظاهرا بلا خجل ولا حياء، ثم كيف لا يستحسن رفاعة ربيب الغرب – بزعم الدكتور السباعي – في رحلته إلا ما لا يخالف الشريعة الإسلامية، يقول رفاعة: “ومن المعلوم أني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نص الشريعة المحمدية”.
وفي موضع آخر يقول رفاعة: “لو تتبعت ما قاله الإفرنج ووافقت آراءهم للحياء أو غيره لكان ذلك محض موالسة”.
كان رفاعة شديد الوضوح في موقفه من كل ما يراه، شديد الرسوخ والثبات، ثابت على دينه وقيمه ومبادئه لم يبدل ولم يدلس.
وفي سياق انتقاده للطهطاوي يعلق الدكتور السباعي على موقف رفاعة من المادة الأولى من الدستور الفرنسي والتي تنص على أن الفرنسيين أمام القانون سواء، مستنكرا ثناء الطهطاوي على هذه المادة التي تموسق العدل والمساواة بين الرعية كافة، شريفها ووضيعها بل حتى أعلى رتبة فيها وهو الملك، إذ تقام الدعوى عليه ويخضع للحكم وينفذ عليه كما أسلفنا، حيث يرى الدكتور السباعي أن في ثناء رفاعة على هذه المادة هياما بالعلمانية الفرنسية وامتداحا لقوانينهم، وجهلا بمقاصد الشريعة الإسلامية، يقول السباعي: “هكذا يستمر الطهطاوي في الإطراء بعلمانية فرنسا ويمتدح قوانينهم لدرجة الهيام فنص المادة أخذ بلبه … فهل يجهل الطهطاوي وهو الشيخ الأزهري مقاصد ومحاسن الشريعة الإسلامية؟ هل يجهل مبادئ شريعتنا الغراء التي سطرت للبشرية صحائف من ضياء حيث العدل والمساواة والحرية ورفع الظلم؟”
لم يكن رفاعة مغرما بالعلمانية الفرنسية كما يقول الدكتور السباعي، بل كان مغرما بالعدل الذي تعيشه بلادهم، ويكون الناس جميعهم سواسية. ثم ما العيب أن يمتدح رفاعة شيئا في قانونهم ما دام شيئا إيجابيا؟ هل يجب عليه أن يعادي أو يرفض كل ما يقوله الغرب ولا يقبله؟ هذا رفض للآخر وتنطع فارغ لا قيمة له ولا فائدة منه، بل نقبل ما يقوله الآخر الغربي ما لم يصطدم مع قيمنا وثوابتنا وديننا.
لم يكن رفاعة جاهلا بمقاصد الشريعة الإسلامية أثناء تعليقه على الدستور الفرنسي، بل كيف يجهلها وقد قال بين يدي تعليقه عليها: “وما يسمونه حرية هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف” وعلى هذا فرفاعة لم يكن يجهل كما يزعم الدكتور السباعي مقاصد الشريعة، إنما أريد تجهيله وانتقاصه واتهامه وإلصاق المعايب به بصورة مخزية تفتقر إلى الحكمة والعقل ولا أبالغ حين أقول والشرف.
لقد وقف رفاعة من الغرب موقفا وسطا بين الانغلاق والتمحور حول الذات وبين التبعية للآخر الغربي، حيث دعا قومه إلى الأخذ بمنجزات الحضارة الغربية في ميادين العلوم والفنون والصنائع، مع الحفاظ على الأصالة والهوية والخصوصية المجتمعية والمرجعية الإسلامية، وهذا ما ينبغي أن يعيه العقلاء والمصلحون من أبناء هذا الوطن العزيز، الطامحون في نهضة حقيقية لأمتنا وبلادنا، لذا أتصور أن ما يقوله الدكتور السباعي ليس موضوعيا على الإطلاق لأنه تعمد انتقاء ما يقوله رفاعة ومهاجمته من خلال قيامه باجتزاء النصوص وغض الطرف عما لا يوافق هواه ولا يتسق مع توجهه الفكري، وهذا تحفز معاد لا يمكن أن يكون موضوعيا على أية حال.
ولكني على الرغم من ذلك كله أتفق تماما مع الدكتور السباعي في تخطئة رفاعة وانتقاده في تعليق الأخير على احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830م، إذ كان رفاعة يرى أن الحرب بين الفرنسيين والجزائريين مجرد أمور سياسية ومشاحنات تجارية. في الوقت الذي يراها الدكتور السباعي اعتداء صارخا على شعب أعزل، وأنها حرب دينية صليبية فرنسية، لا سيما وقد هنأ المطران الفرنسي الملك بانتصار الملة الفرنسية على الملة الإسلامية. لقد كانت الحرب على الجزائر حربا صليبية واضحة المعالم كما قال الدكتور السباعي.