بحوث ودراسات

د. علي السباعي يكتب: الطريق إلى الله (1)

سيظل الناس في التيه والظلمات ما لم يعرفوا ربهم حق المعرفة، وأنا هنا لا أتكلم عن غير المسلمين، إنما أتكلم عن المسلم الذي لا يعرف من إسلامه إلا ملامح عامة، وخليط من عادات وإرث الآباء والأجداد، فتجده يعبد الله على حرف، فإن أصابته فتنة أو محنة أو مصيبة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة. فانتشر الإلحاد والكفر والشك والنفاق عياذا بالله. وكل ذلك ناتج عن عدم معرفة الناس بربهم، فما قدروه حق قدره سبحانه وتعالى.

كنتُ في الحلقة الأخيرة من برنامج “قضايا وآراء” قد تناولت شيئا من هذه القضية، وقد كان الغرض من وراء طرح هذا الموضوع هو إيصال رسالة للمشاهد بحقيقة هذا الرب الجليل جل في علاه، من خلال الأيات والأحاديث وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وكذلك من خلال التجارب المعاصرة، إلا أنّ وقت البرنامج لم يسع لبسط الموضوع بالطريقة التي أريدها، فرأيت أن أكتب حول هذا الموضوع من خلال سلسلة مقالات لعل الله ينفعنا بها، ونستطيع من خلالها إيصال الرسالة التي عزمنا على أيضاحها للناس، والله نسأل التوفيق والسداد والإخلاص في القول والعمل.

تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، واضحة سهلة الفهم، سمحاء مُيسّرة، ومع ذلك ترك غالب الأمّة هذه المحجة واتبعوا أهوائهم بغير علمٍ، فضلوا عن سواء السبيل. اختلفت الأمة في كل شئ، وانتشرت بينها البدع والضلالات التي ما أنزل الله بها من سلطان، فلم يبق باب من أبواب العقائد أو العبادات أو السلوك أو الفرائض إلا وانتشرت فيه الخرافات والضلالات، كل التصورات حول الصلاة، الحج، الذكر، الرسول عليه السلام، الصحابة، قضايا الإيمان، الإسلام، الكفر، الرّدة، الشريعة، الحكم، القضاء، وهلم جرا لم تسلم من تحريف العابثين، بل لم يسلم من هذا العبث حتى التصورات المتعلقة بالله جل جلاله وأسمائه وصفاته.

لا أريد في هذه السلسلة من المقالات أن أتطرق إلى هذه الخلافات المتعلقة بالله وأسمائه وصفاته، إلا أنني أؤمن إيمانا راسخا بأنّ كل أسم أو صفة لله جل في علاه وردت في الكتاب أو صحيح السنة اعتقدها وأؤمن بها كما وردت من غير تعطيل ولا تكييف. قال الله تعالى “الله خالق كل شئ”. فهنا أومن بأن الله خالق كل شئ، وهو قادر على أن يخلق أي شئ، ولن أفتح على نفسي باب الـ”كيف؟” أي كيف يخلق الله الأشياء؟ فإن عقلي قاصر على إدراك ذلك، كما أنني أومن بذات الله، ولكن عقلي قاصر على تصور كيف تكون ذات الله؟ وهكذا كل الأسماء والصفات. فالله يحب ويكره، ويرضى ويغضب، ويسمع ويرى، ويضع الموازين، ويعلم ما في الصدور..الخ، لكنني لا أفتح على نفسي باب الـ “كيف؟” في كل ما ورد من أسماء الله وصفاته، فالله “ليس كمثله شئ وهو السميع البصير”. هكذا هي الأمور بكل يسر وسهولة، وإياك أن تفتح على نفسك باب الجدل في أسماء الله وصفاته، فيتحول هذا الباب العظيم من أسماء الله الحسنى وصفاته العلا إلى أشبه ما يكون بمادة الجبر أو الهندسة!.

ما تقدم هو أكبر الأبواب على الإطلاق التي من خلالها نصل إلى الله ومرضاته، كما سنبينه في المقالات القادمة إن شاء الله.

تصور أخي الكريم، لو أنّ رجلا من الناس أمضى عمره في جمع مبلغ من المال لبناء بيته وبيت أسرته، وبعد جهد مضني استطاع أن يُشيّد بيتا يسر الناظرين، ولم يتبق إلا طلاء هذا البيت من الداخل والخارج، وعلى حين غفلة من صاحب البيت جاء شقيق هذا الرجل زائرا لهذا البيت، فأعجبه ما رأى، وقرر أن يفاجأ أخاه بطلاء البيت من الداخل والخارج كهدية من أخ إلى أخيه، فذهب واتفق مع مجموعة من العمال على طلاء البيت كله، من الداخل والخارج، باللون “الأخضر!”، فجاء صاحب البيت ليزور بيته فتفاجأ ببيته وقد علاه اللون “الأخضر” الذي يسوء الناظرين، فاستشاط غيضا وغضبا، فلما استفهم، قيل له إنّ أخاك هو من أمر بذلك كي يُرضيك ويُسعدك!.

ولي على ما تقدم التعليقات التالية:

أولا: لا يشك أحد بأن “نيّة” شقيق صاحب البيت هي ادخال السرور على أخيه، إلا أنّ ما قام به من عمل قد أغضب “ربّ البيت = شقيقه” ولم يرضه إطلاقا أليس كذلك؟ لأن “نيّة” أخيه الطيبة غير كافية لتوافق ما يريد “ربّ البيت = شقيقه” وما يشتهيه.

ثانيا: ما يريده ربنا جل في علاه وما يرضيه لا يمكن الوصول إليه ومعرفته إلا عن طريق الرسول الكريم الذي أرسله إلينا، ومهما كانت “نوايانا” طيبة فلن ترضي “ربنا” ما لم توافق ما جاء به رسوله الكريم الذي ارتضاه “هو = رب الكون” أن يبلّغ عنه ما يحبه وما يكرهه.

ثالثا: ما جاء به هذا الرسول الكريم، بعضه تدركه عقولنا، والبعض الآخر تعجز العقول عن ادراكه، لأن هذا الرسول الكريم يُبلغ عن رب العزة والجلال التي تعجز العقول البشرية عن تصوره أو تخيله. فهنا وجب على كل مسلم أن يقبل ويُسلم بما جاء به هذا الرسول الكريم، سواء أدركته عقولنا أم لم تدركه “وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا”.

رابعا: كثير ممن يدعي اليوم أنهم يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم هم من أبعد الناس عن سنته، وسواء زعم بعد ذلك أنه من أنصار «الجهاد» أو «الخلافة» أو «السّلف» أو «آل البيت» أو نسب نفسه لـ«التصوف» وهلم جرّا، ومن يضلل الله فما له من هاد.

وما تقدم أصل من الأصول العظيمة التي لا يمكن الوصول إلى الله إلا عبره، ومهما اجتهد العُبّاد والزهاد والمجاهدون والأولياء والدعاة والعلماء والصالحون فلن يُقبل منهم صرفا ولا عدلا ما لم يصطفوا خلف محمد صلى الله عليه وسلم، وأبواب السماء مقفلة على الناس كافّة ما لم يقتدوا بسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام.

هذا المقال، وما يليه من مقالات، هو أهم ما في هذه السلسلة من المقالات، وهو الباب الأعظم الذي يتعين على العبد المسلم الدخول منه إلى الله، وإني لأسأل الله أن يوفقني في إيصال ما أريد إيصاله إلى القارئ الكريم، كما أسأله سبحانه أن يشرح صدورنا وصدوركم له، ولا أكتمكم سرّا أنني لم أفقه هذا الباب إلا بعد محنة اختطاف ابني ـ الزبير ـ الشهرين الماضيين، وقد يكون ما سأذكره معلوم لكثير من الناس، ولكنني أتحدث عن نفسي ـ والإنسان على نفسه بصيرة ـ لم أفقه هذا الباب، ولم يلامس قلبي إلا بعد هذه المحنة، ومن باب أنّ المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، رأيتُ لزاما على نفسي أن أنقله إليكم، فأقول وبالله التوفيق.

الله جل جلاله متصف بصفات الجلال والكمال، والله سبحانه وتعالى يحب المدح والثناء، ولذلك أثنى على نفسه في القرآن كثيرا، فقال على سبيل المثال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وقال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)

وقال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا).

كما أنه سبحانه كثير التنزيه والتسبيح والتبريك لذاته جل في علاه، وهذا التسبيح والتنزيه هو نوع من الثناء والحمد،

قال تعالى (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). وقال تعالى (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ )

وقال تعالى (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ولا تكاد تخلو سورة في كتاب الله من حمد أو تقديس أو تسبيح أو تبريك أو ثناء لله جل في علاه، وهو أمر مشهور معلوم يدركه العامة والخاصة، فلسنا بعد ذلك بحاجة لبيانه.

وأرجو أن تنتبه للآتي أخي الكريم، الملائكة خلقها الله من نور، فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون).

فالملائكة ما خُلقت إلا لتسبيح الله وتهليله وتقديسه وتعظيمه (1). ويشارك الملائكة في هذا التسبيح والتعظيم والتقديس المؤمنون من البشر (2)، وهذا التعظيم والتقديس والتنزيه والتسبيح له متعلق ببعض أسماء الله الحسنى وصفاته، كالقدوس والمهيمن والعزيز والجبار والقهار والأعلى والعظيم وهكذا.

ولكن هناك أسماء لله وصفات كالغفور والغفّار والتواب والسّتير والشافي ونحو ذلك، لا يتعبد الله بها إلا المؤمنون من البشر ولا يشاركهم فيها الملائكة. وهذه القضية في غاية الأهمية، وسأبينها في المقالات القادمة إن شاء الله، ولكنني سأضرب مثلا لتقريب هذا المفهوم للقارئ الكريم:

تصور لو أن امرأة لم تُرزق الولد إلا بعد زواجها بعشرين سنة، فلما أن رزقت بمولودها الوحيد مات زوجها وترك لها ثروة تُقدر بمليارات الدينارات، ولم يكن لها ولا لزوجها من وريث غير طفلها الوحيد، فامرأة تملك ثروة طائلة وليس لها من وريث إلا ابنها، وهي تحبه حبّا جمّا.

فلك أن تتصور التالي أخي الكريم:

1ـ ما هو غاية الأماني لهذه الأم؟ أليس أن تنفق على ابنها؟ فهي تملك ثروة طائلة وتحب ابنها، فغاية سعادتها حينما يكون ابنها يلامس هذه “الصفة = الأمومة” ويسألها الإنفاق والرعاية.

2ـ هذا الابن لو أراد أن يُسعد أمه غاية السعادة، فما عليه إلا أن يفسح لأمه أن تمارس خصائص هذه “الصفة = الأمومة” عليه، من الإنفاق والرعاية أليس كذلك؟ تصور لو أنّ هذا الابن أقفل على أمه كل أبواب استعمال هذه “الصفة = الأمومة” من الإنفاق والرعاية ولم يقبل منها درهما ولا دينارا هل ستكون الأم راضية وسعيدة بهذا التصرف؟!.

3ـ تصور لو أنّ هذا الابن قد ترك بيت أمه فترة من الزمن وانقطع عنها، هل هذا الانقطاع سيسعد هذه الأم؟ ثم لو أن هذا الابن عاد إلى أمه واعتذر هل ستكون هذه العودة محل ترحيب من الأم؟ أم لن تقبل عودته؟

ولله المثل الأعلى، الله هو الغني ونحن الفقراء، والله هو القوي ونحن الضعفاء، والله هو الشافي ونحن المرضى، والله هو الغفور ونحن المذنبون، والله هو التواب ونحن الخطاؤون، والله هو الكريم ونحن المحتاجون، والله هو الحافظ ونحن تحيط بنا المخاطر من كل مكان، فنحن الذين نحتاج الى الله أن يكشف عنا الضر ويصرف عنا السوء وأن يطعمنا ويسقينا ويكسونا ويسترنا ويصلح ذرياتنا وأزواجنا وهلم جرا، والله عنده خزائن السموات والأرض، ترى ما الذي يُسعد الله؟ العبد المؤمن هو وحده من يستطيع أن يدخل على الله من هذه الأبواب، أما الملائكة فلا تأكل ولا تشرب ولا تمرض ولا تذنب..إلخ. فهذه الأبواب من العبودية التي يحبها الله لا يدخلها إلا المؤمنون من البشر. أرجو أن أكون قد قرّبت إليكم الصورة؟ على كل حال سيأتي مزيد بيان لهذه القضية المهمة في المقالات القادمة إن شاء الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ كل الكون وما خلق الله فيه من شئ إلا يسبح بحمد الله، السموات، والأراضيين، والجبال، والطير، والبحار، والنجوم..إلخ. إما غير المؤمنين من الجنّ والأنس فهم شر الدواب، وهم الجنس الوحيد في هذا الكون الذين كفروا بهذا الرب العظيم، ولذلك لا يسبحونه ولا يعظمونه، وقد أعدّ الله لهم عذابا مهينا، جهنم يصلونها فبئس المهاد.

2ـ كلما أذكر الأنس في هذه السلسلة فيعني ذلك أنه خطاب للجنّ أيضا، ولأن الجنّ لا يعنونا في شيء فلن اذكرهم في قابل المقالات

د. علي السباعي

كاتب وباحث أكاديمي ليبي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights