بحوث ودراسات

د. علي السباعي يكتب: الطريق إلى الله (6)

الذين يرددون تلك التساؤلات والشبهات المتضمنة الاعتراض على الله في أفعاله وقدره وحكمته، والتي من جنس «ظلمني ربي.. وحرمني ربي.. وليش أنا من دون الناس.. وهلم جرا».

 

هم من أجهل الناس بهذا الربّ الكريم العظيم الجليل، وهؤلاء مع جهلهم، فإنهم من أظلم الناس في نصبهم لهذه الموازين التي يحاكمون بها أفعال الله وحكمته وقدرته، سبحانه وتعالى كما يقول الجاهلون علوّ كبيرا، فهم مع أنهم لا يملكون الهواء الذي يتنفسونه ولا يملكون أنفسهم ولا أبنائهم ولا زوجاتهم..إلخ فكل هذا ملك لله وحده كما أسلفنا، ومع أنّ الله لا يظلم الناس شيئا، بل سبحانه يعفو ويصفح، وكتب على نفسه الرحمة سبحانه وتعالى، ومع ذلك هذا الإنسان الظلوم الجهول يريد أن ينصب الموازين لله العظيم المُعطي المتفضل سبحانه وتعالى.

ومن معالم جهل هؤلاء وبغيهم وظلمهم وعتوهم، أنهم يُقيمونَ الموازين لأفعال الله وحكمته وقدره المتعلقة بالحياة الدنيا فقط!، وهذا من أعظم البغي والظلم والبهتان، فإنّ هذه الحياة الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وإن الدار الآخرة هي الخلود والنعيم أو الجحيم الأبدي، فكيف يا أيها الجاهل الظالم الباغي تقيّيم فعل هذا الرب العظيم الجليل فقط المتعلقة بهذه الدنيا وتنسى الخلود الأبدي وتُخرجه من موازينك الجائرة؟.

تصور لو أنّ بيل غيتس ـ مؤسس شركة مايكروسفت ـ ويُعد من أثرى أثرياء العالم، أراد أن يدخل إلى إحدى مراكز التسوق في طرابلس، فاستوقفه الحارس الذي في باب المركز متسائلا! كم معك من المال؟ فأجابه قيتس 500 دولار.

 

فقال له الحارس: أسف هذا المركز غير مسموح بدخوله إلا لمن يملك 1000 دولار فما فوق!. هل تعدون هذا الحارس من العقلاء؟ فهذا الحارس لم يتجاوز عقله الـ 500 دولار التي في جيب قيتس، ولم يبصر الثروة الهائلة التي يمتلكها قيتس، فقصور نظر هذا الحارس وضيق عقله جعله يقع في هذه السخافة، ولله المثل الأعلى، الذين ينصبون الموازين لأحكام الله وقدره وحكمته فقط لما يجري في هذه الحياة الدنيا، هم أشد بغيا وظلما وسفها من هذا الحارس الأخرق.

فحينما يقع عليك قدر الله، فيحرمك الولد أو يموت والدك أو يُختطف ابنك أو يُهدم بيتك أو … أو … إلخ فتنظر فقط إلى هذا الحدث مُجرّدا عن الآخرة فأنت قد قلت على الله قولا عظيما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا. وحينما ترى إلى هؤلاء المجرمين والمفسدين والطغاة والقتلة يتمتعون بالملايين ويتنقلون هنا وهناك سفرا وسياحة ولهو ولعبا، بعد أن أقاموا المجازر في شعوبهم، ثم تنظر فقط إلى هذا الحدث مُجرّدا عن الآخرة فأنت قد قلت على الله قولا عظيما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا.

نزول البلاء والمصائب

أتناول في السطور التالية -بإيجاز- بعض ما يجب استحضاره عند نزول البلاء والمصائب فيما يتعلق بالدنيا والآخرة، وهو باب يخفف المصائب ويضعها في حجمها الطبيعي:

أولا: نصوص الكتاب والسّنة لا تكاد تُحصى في بيان أن الدنيا لا تساوي شيئا مقابل الآخرة، قال الله تعالى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وقال تعالى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.

والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا. وكذلك أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى كثيرة أيضا، يقول عليه الصلاة والسلام «وَالله مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟» رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». متفق عليه.

ثانيا: لابد أن يستحضر الإنسان في هذه الدنيا أنه ممتحن، والامتحان هذا غير مقيد بقيد، فتارة يكون مرضا وتارة يكون فقرا وتارة يكون كسرا وتارة يكون حرقا وتارة يكون فقدا وتارة يكون موتا وهكذا، فالدنيا هكذا هي، وهذا الامتحان من ورائه حكمة عظيمة سيأتي الحديث عنها ان شاء الله،

قال الله تعالى {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين}.

وقال الله تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًاۚ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.

وقد صُنفت المصنفات الضخمة في هذا الباب وهو معلوم ظاهر.

ثالثا: «إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، فَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الْإِيمَانَ» كما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه.

بل إنّ الله قال {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}.

يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات عن ابن عباس «أَيْ : لَوْلَا أَنْ يَعْتَقِدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْجَهَلَةِ أَنَّ إِعْطَاءَنَا الْمَالَ دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّتِنَا لِمَنْ أَعْطَيْنَاهُ، فَيَجْتَمِعُوا عَلَى الْكُفْرِ لِأَجْلِ الْمَالِ..».

رابعا: أشد الناس بلاء في هذه الدنيا هم أولياء الله من الأنبياء والمرسلين والصديقين والصالحين والعلماء، قال صلى الله عليه وسلم «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة». رواه الإمام أحمد.

وإن من الابتلاء العظيم أن يبتلى الإنسان بتسلط السفهاء على العقلاء، وتسلط الجهال على العلماء، وتسلط أهل الغلو على أهل الاعتدال، فترى الغِر الجاهل الأحمق الأرعن يمتحن العلماء العقلاء في عقائدهم ومناهجهم، ثم يحكم عليهم بالبدعة والضلال ثم يُصدر عليهم أحكامه الظالمة الجاهلة، فيجرهم إلى حفرة في باطن الأرض ثم يفرغ رصاص الغل والحقد والطيش والضلال في أجساد من كرّسوا حياتهم لخدمة الدين والسّنة، وإنّ هذا لهو البلاء المبين.

خامسا: إنّ العدل المطلق والقصاص العادل لا يكون إلا في الآخرة، وقد لخّص الله هذا المشهد بقوله «ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين».

عند ذلك ينسى أهل الإيمان الذين أصابتهم المصائب والمحن في هذه الدنيا كل آلامهم وأحزانهم، ويعيشون سعادة أبدية، قال عليه الصلاة والسلام «ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط».

وكذلك يُفعل بأهل الشقاوة، فـ “يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب”. كما في صحيح مسلم.

وللحديث بقية إن شاء الله.

————-

ـ ملاحظة: هذه السلسلة من المقالات تسعى للإجابة على أسئلة خطيرة تتعلق بصفات الله وأسمائه وأحكامه وقدره وتدبيره في خلقه، فلا يصلح إلا قراءتها مرتبة من أول مقال إلى آخر مقال فيها.

د. علي السباعي

كاتب وباحث أكاديمي ليبي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى