د. علي الصلابي يكتب: الأشد بلاءً
تشديد البلاء على الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ليس لكثرة ذنوبهم، ولكن ليعظم تكفير الذنوب، فيكثر بلاؤهم ليكثر تكفير ذنوبهم، وإلا فذنوبهم أقلّ من ذنوب غيرهم.
ثم لا تستوحش من هذا، فتقول: وهل للأنبياء ذنوب؟! فإن الأدلة دالة على تجويز الصغائر على الأنبياء دون أن يقرّوا عليها، وعلى هذا عامة السلف، والقول بعصمتهم من الصغائر قول حادث، قال جل جلاله: {وَعَصَىٰۤ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ }، وقال: { فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَلِلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ}، وهي مسألة عقدية مشهورة.
الأصل الثالث: إذا تقرر أن كل بلاء وعقوبة فبذنب؛ فليس يلزم أن يعاقب العبيد بكل ذنب، بل إن كثيرًا من الذنوب لا يؤاخذ ﷲ بها العبيد، كما قال سبحانه: {وَمَاۤ أَصَـٰبَكُم مِّن مُّصِیبَةࣲ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَیَعۡفُوا۟ عَن كَثِیر}.
وهذه الآية اجتمع فيها أصلان:
– أن المصائب من الذنوب.
– وأنه لا يلزم العقوبة على كل ذنب.
وإنك واجد عند وقوع المصيبة تسلطًا وسخرية من بعضهم، فتراهم ينكرون تسبيب العقوبات بالذنوب؛ ولعله أن يحملهم على ذلك الرأفة بالمؤمنين، والحزن على مصابهم، والإيواء لهم أن تذكر علاقة الذنب بالمصيبة في وقت هم أحوج ما يكونوا إلى حسن المواساة، وجميل العزاء.
وربما يقول قائلهم: انظر إلى الكفار يأتون أعظم الذنوب ولم ينزل بهم ما نزل ببعض المسلمين!
وإن نزل بالكفار مصيبة قال: لا تقل إن ذلك بذنبهم، فقد نزل بالمسلمين مثلما نزل بهم.
وهذا نسيان لأصل في الباب، فإن الأدلة جاءت بأن البلاء قد ينزل ببعض المؤمنين تكفيرًا لذنبه، وقد يترك بعض الكفار استدراجًا له، قال ﷺ: «لا يصيب المؤمن من مصيبة حتى الشوكة إلا قص الله بها من خطاياه أو كفر بها من خطاياه»، رواه مسلم.
بل إنه يشدّد على المؤمنين كما سبق، وكما قال ﷺ: «إن الصالحين يشدد عليهم، وأنه لا يصيب مؤمناً نكبة من شوكة فما فوق ذلك إلا حطت به عنه خطيئة، ورفع له بها درجة»، رواه أحمد.
وفيه قال ﷺ: «إﻥ ﻣﻦ ﺃﺷﺪ اﻟﻨﺎﺱ ﺑﻼء اﻷﻧﺒﻴﺎء، ﺛﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻠﻮﻧﻬﻢ، ﺛﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻠﻮﻧﻬﻢ».
وأما الكافر فقد يستدرجه ﷲ كما قال جل جلاله: { وَٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَیۡثُ لَا یَعۡلَمُونَ }.
الأصل الرابع: أن يُعلم أنّ نزول البلاء قد يكون خيرًا للعبد، فإنه قد يكون سببًا في رجوعه إلى ﷲ، وإذا كان الله قد ذكر أثر ذلك على الكافر؛ فكيف بصاحب الإيمان والتقوى، كما قال ﷻ: {وَلَنُذِیقَنَّهُم مِّنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَدۡنَىٰ دُونَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَكۡبَرِ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ}.
وكثير من الناس ينسى النعم وتعظُم لديه المصيبة، قال ﷲ: {إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودࣱ}، قال الحسن: “يعد المصائب وينسى النعم”.
الأصل الخامس: إن البلاء قد ينزل فيعم الصالح والفاسد، ففي الصحيحين قال ﷺ: «ﺇﺫا ﺃﻧﺰﻝ اﻟﻠﻪ ﺑﻘﻮﻡ ﻋﺬاﺑﺎ ﺃﺻﺎﺏ اﻟﻌﺬاﺏ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻓﻴﻬﻢ، ﺛﻢ ﺑﻌﺜﻮا ﻋﻠﻰ ﺃﻋﻤﺎﻟﻬﻢ».
الأصل السادس: أن النعمة قد تكون بلاء، يبتلي ﷲ العبد بالنعم فيقسو قلبه ويغفل عن ذنبه، ولو عوقب لربما رجع، فيمكر به ويزداد في الغيّ.
ثم هناك تفاصيل أخرى كسبب رفعة الدرجات، هل هي بالمصيبة المجردة، أم بالطاعات المقترنة بالمصائب كالصبر والرضا، وغيرها مما هي مسائل خارجة عن أصل هذه المقالة العجلى، والله أعلم.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ.