مقالات

د. علي الصلابي يكتب: الأصل في الناس التوحيد وتحقيقه شرط التمكين

إن الشرك بالله تمجه وترفضه الفطرة السليمة، ولقد بقي البشر بعد آدم قرونًا طويلة وهم أمة واحدة على التوحيد والهدى، ثم أدخلت عليهم الشياطين الشرور المتنوعة بطرق كثيرة، فكان قوم نوح قد مات منهم أناس صالحون فحزنوا عليهم، فجاءهم إبليس وأمرهم أن يصوروا تماثيلهم ليتذكروا أحوالهم، فكان هذا باب الشر العظيم.

فلما مات الذين صوروهم لهذا المعنى، خلف من بعدهم خلف قل فيهم العلم واستفزهم الشيطان وأغواهم حتى أوقعهم في الشرك، ثم بعث الله فيهم نوحًا عليه السلام يعرفونه ويعرفون صدقه وأمانته وكمال أخلاقه فقال: ” يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ” [الأعراف:59]، إلا أنهم عصوه وما آمن معه إلا قليل.

إن الله تعالى خلق الناس على فطرة التوحيد ثم استطاعت الشياطين أن تميل بالناس وتنحرف بهم نحو الوثنية المظلمة والشرك العظيم، قال تعالى: ” كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ” [البقرة:213].

أي: أن الناس كانوا على ملة آدم عليه السلام حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحًا عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض (1).

وقال تعالى: ” فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ” [الروم:30].

وقال تعالى: ” وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ” [النحل:36]. وقال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» (2).

وهذه الأدلة الدامغة التي ذكرناها تدل على أن الناس كانوا على التوحيد وأن الشرك طارئ وحادث فيهم.

إن الجماعة المسلمة التي رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً تحرص على تحقيق التوحيد ومحاربة الشرك وهي تسعى لتحكيم شرع الله, لأنها تعلم علم اليقين أن من شروط التمكين وإقامة دولة الإسلام تحقيق التوحيد وتهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر, ومن البدع القولية والاعتقادية, والبدع الفعلية العملية, ومن المعاصي وذلك بكمال الإخلاص لله في الأقوال والأفعال والإرادات, وبالسلامة من الشرك الأكبر المناقض لأصل التوحيد, ومن الشرك الأصغر المنافي لكماله وبالسلامة من البدع (3),  وتربي الناس على الاستعانة بالله في جميع أمور حياتهم والاستعانة به والنذر له والذبح له وحده سبحانه وتعالى، وأن تكون الحاكمية لله رب العالمين.

وهي تحارب شرك القبور، وكذلك شرك القوانين الوضعية، وتدعو إلى إفراد العبودية لله وحده في جميع شئون الحياة الإنسانية، ولسان حالها ومقالها قول الله تعالى: ” قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ` لاَ شَرِيكَ لَهُ” [الأنعام:162،163].

لذلك لابد من محاربة الشرك ومداخله وألوانه وجميع طرقه، لأن الشرك ذلة في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة، ولأن من متطلبات الإيمان ولوازمه محاربة ضده ألا وهو الشرك.

وبعد أن ذكرت الآية الكريمة شروط الاستخلاف والتمكين والأمن, أرشدت الآيات التي بعدها إلى كيفية المحافظة على هذا التمكين والأمن، وإلى العدة الفعلية للأمة الإسلامية ألا وهي: الاتصال بالله, وتقويم القلب بإقامة الصلاة, والاستعلاء على الشح, وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة, وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والرضا بحكمه, وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة, وتحقيق المنهج الذي أراده للحياة: ” لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” [النمل:46] في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال, وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال. إن الأمة الإسلامية عندما تسير على نهج الله تعالى وتحكم شرعه في الحياة، وترتضيه في كل أمورها.. يتحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن، وما من مرة خالفت عن هذا النهج والطريق القويم إلا تخلفت في ذيل القافلة، وذلت، وطرد دينها من الهيمنة على البشرية، واستبد بها الخوف، وتخطفها الأعداء.

إن وعد الله لا يتبدل ولا يتغير إذا أقمنا الشروط، فإذا أردنا الوعد فعلينا بتحقيق الشروط ولا أحد أوفى بعهده من الله تعالى (4).

—————————————-

مراجع الحلقة السادسة والثلاثون:

() انظر: تفسير ابن كثير (1/250).

(2) مسلم، كتاب القدر، باب: كل مولود يولد على الفطرة (4/2047) رقم 2658.

(3) انظر: الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة، ص191.

(4) في ظلال القرآن (4/2530).

د. علي الصلابي

مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى