بحوث ودراسات

د. علي الصلابي يكتب: الإعداد من أسباب التمكين

إن الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى التمكين أمر أرشدنا إليه القرآن الكريم، وحثنا على الأخذ بها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الله تعالى بالإعداد الشامل فقال: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ» [الأنفال: 60].

والإعداد في حقيقته أخذ بالأسباب.

وأشارت الآية الكريمة إلى الأمر بإعداد:

1- ما استطعتم من قوة.  2- ومن رباط الخيل.

والغاية:

1- ترهبون به عدو الله وعدوكم.

2- وآخرين من دونهم لا تعلمونهم.

وإعداد القوة، لفظ عام يشمل كل قوة، فقوة العقيدة والإيمان قوة، وقوة الصف والتلاحم قوة، وقوة السلاح والساعد قوة.  ورباط الخيل إشارة إلى السلاح الثقيل، وإشارة إلى وجوب وجوده في أيدي المسلمين لا تأخذه شراء أو هبة من أحد.

ولا يمنع من الحفاظ على الخيل كجزء من الإعداد الإسلامي، لأنها عند الالتحام أقوى من التحام الأفراد بغير أفراس، وقد أثبتت الحروب الحديثة أهمية الخيل كما حدث للمجاهدين في جبال الأفغان ضد الشيوعيين، وفي جنوب السودان ضد النصارى.

إن الآية الكريمة تضع أذهان المسلمين على الإعداد الشامل، المعنوي والمادي، العلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات، وتدخل في طياتها، الإعداد التربوي، والسلوكي، والإعداد المالي، والإعداد الإعلامي، والسياسي والأمني والعسكري… إلخ.

كما أن الآية الكريمة وضحت أن الإعداد يحتاج إلى إنفاق هائل ووعدت بالتعويض في الدنيا والجزاء في الآخرة لتحفز المسلمين وتحثهم على ذلك، قال تعالى: «وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ» [الأنفال: 60].

إرشاد القرآن للإعداد:

إن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتم القرآن الكريم اهتماما كبيرا في إرشاد الأمة للأخذ بأسباب القوة وأوجب الله تعالى على الأمة الأخذ بأسبابها، لأن التمكين لهذا الدين طريقه الوصول إلى القوى بمفهومها الشامل، وقد قال الأصوليون: «وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» (1).

إن القرآن الكريم أوجب على أتباعه إعداد القوة بصورة واضحة، قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ» [الأنفال: 60].

شرح الآية الكريمة:

الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل (2). والضمير في «لهم» راجع إلى الكفار.

وقوله: ” مَّا اسْتَطَعْتُم” قال ابن كثير: أي مهما أمكنكم (3)، وهذا التعبير القرآني يشير إلى أقصى حدود الطاقة، بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها (4).

والمراد بالقوة هنا: ما يكون سببا لحصول القوة، وذكر الفخر الرازي فيه وجوها:

1- المراد من القوة أنواع الأسلحة.

2- ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية الكريمة على المنبر وقال: «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاثا (5).

3- قال بعضهم: القوة هي الحصون.

4- قال أصحاب المعاني: الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على

حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد، فهو من جملة القوة، وقوله عليه السلام: «القوة الرمي» لا ينفي كون غير الرمي معتبرا كما أن قوله:

«الحج عرفة» (6). وقوله: «الدين النصيحة» (7) لا ينفي اعتبار غيره، بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود وكذا هنا (8).

كما يساعد على هذا الفهم مجيء كلمة «قوة» هنا نكرة لا معرفة، فهي تشمل كل سلاح معروف أو سيعرف مع الزمن المتجدد فهي تتسع لإعداد الطائرات والصواريخ والدبابات.. وكل الأسلحة التي لها التأثير الحاسم في المعركة (9).

ومعنى «رباط الخيل» قال النسفي: هي اسم للخيل التي ترابط في سبيل الله تعالى (10)، وقال صاحب تفسير المنار: الرباط في أصل اللغة: الحبل الذي يربط به الدابة،

ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها (11)، ومعنى «تُرْهِبُونَ بِهِ» أي: تخزون، كما قال الطبري (12)، وقال ابن كثير: تخوفون به (13)، وقال الشيخ المراغي: الرهبة: هي الخوف المقترن بالاضطراب (14).

ومعنى «وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ» قال الطبري: هم كل عدو للمسلمين غير الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن يشرد بهم من خلفه (15)، وذكر الفخر الرازي فيه وجوها ثم قال: وأصح ما قيل في المقصود منهم: «أنهم المنافقون» (16).

ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء، فقال جل شأنه: «تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ…» ذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له ومستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم وذلك الخوف يفيد أمورًا كثيرة:

1- أنهم لا يتجرأون على دخول دار الإسلام.

2- أنهم إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم دفع الجزية.

3- أنه ربما صار ذلك داعيا إلى الإيمان لما يرون من قوة أهله وعزته.

4- أنهم لا يعينون سائر الكفار.

5- أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار الإسلام (17).

ويقول صاحب الظلال: الإسلام يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها، فلابد للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض لتحرير الإنسان.

—————————————

مراجع الحلقة الأربعون:

(1) في ظلال القرآن (2/919) تفسير آية 54 من سورة المائدة.

(2) تفسير المنار (5/53).

(3) تفسير القرآن العظيم (2/122).

(4) في ظلال القرآن (2/1553).

(5) مسلم مع شرح النووي، كتاب الجهاد، باب: فضل الرمي (13/64).

(6،7) مسلم، كتاب الإيمان، باب: إن الدين النصيحة (1/74).

(8) تفسير المنار (5/53).

(9) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص89.

(10) انظر: تفسير النسفي.

(11) تفسير المنار (10/16).

(12) تفسير الطبري (6/22)

(13) تفسير ابن كثير (2/322)

(14) تفسير المراغي (4/23)

(15) تفسير الطبري (6/22)

(16) مفاتيح الغيب (7/533).

(17) المصدر نفسه (7/324) وما بعدها.

د. علي الصلابي

مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights