د. علي الصلابي يكتب: حفر عبد المطَّلب جدِّ النَّبيِّ ﷺ لزمزم
ذكر الشيخ إبراهيم العلي في كتابه القيِّم (صحيح السيرة النَّبويَّة)، روايةً صحيحةً في قصَّة حفر عبد المطَّلب لزمزم من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قال: «قال عبد المطَّلب: إنِّي لنائمٌ في الحِجْر، إذْ أتاني آتٍ، فقال لي: احفر طَيْبة. قلت: وما طَيْبة؟ قال: ثمَّ ذهب عني.
قال: فلـمَّا كان الغد؛ رجعت إلى مَضْجعي، فنمت فيه، فجاءني، فقال: احفر بَـرَّة، قال: قلت: وما بَـرَّة؟ قال: ثمَّ ذهب عنِّي.
فلـمَّا كان الغدُ؛ رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني، فقال: احفر المضنونة. قال: قلت: وما المضنونة؟ قال: ثمَّ ذهب. فلـمَّا كان الغد؛ رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني، فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تَنْزِفُ أبداً، ولا تُذَمُّ، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفَرْث والدَّم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النَّمل.
قال ابن إسحاق: فلـمَّا بُيِّن له شأنُها، ودُلَّ على موضعها، وعَرَف أنَّه قد صُدِق؛ غدا بمِعْوَلِهِ ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس معه يومئذٍ ولدٌ غيره، فحفر فيها، فلـمَّا بدا لعبد المطلب الطَّيُّ؛ كبَّر، فعرفت قريش: أنَّه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا: يا عبد المطلب! إنَّها بئر أبينا إسماعيل، وإنَّ لنا فيها حقًّا، فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعلٍ، إنَّ هذا الأمر قد خُصِصْتُ به دونكم، وأُعطيته من بينكم. قالوا له: فأنصفنا، فإنَّا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه. قالوا: كاهنة بني سعدٍ بن هُذَيم. قال: نعم، وكانت بأطراف الشَّام.
فركب عبد المطَّلب ومعه نفرٌ من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كلِّ قبيلةٍ من قريش نفرٌ، فخرجوا؛ والأرض إذ ذاك مفاوز؛ حتَّى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب، وأصحابه، فعطشوا حتَّى استيقنوا بالهلكة، فاستسقوا مَنْ كانوا معهم، فأبوا عليهم، وقالوا: إنَّا بمفازة وإنَّا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم. فقال عبد المطَّلب: إنِّي أرى أن يحفر كلُّ رجلٍ منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوَّة، فكلَّما مات رجلٌ دفعه أصحابه في حفرته، ثم وَارَوْه؛ حتَّى يكون آخرهم رجلاً واحداً، فَضَيْعةُ رجلٍ واحدٍ أيسر من ضيعة ركبٍ جميعـه. فقالوا: نِعْمَ ما أمرت به.
فحفر كلُّ رجلٍ لنفسه حفرةً، ثمَّ قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثمَّ إنَّ عبد المطلب قال لأصحابه: والله إنَّ إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض، ولا نبتغي لأنفسنا لَعَجْزٌ، فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد، ارتَحلوا. فارتحلوا؛ حتَّى إذا بعث عبد المطَّلب راحلته انفجرت من تحت خفِّها عين ماءٍ عذبٍ، فكبَّر عبد المطلب، وكبَّر أصحابه، ثمَّ نزل، فشرب، وشرب أصحابه، واستسقوا حتَّى ملؤوا أسقيتهم، ثمَّ دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال – فقال: هَلُمُّوا إلى الماء ؛ فقد سقانا الله، فجاؤوا، فشربوا، واستقوا كلُّهم، ثمَّ قالوا: قد – والله – قضى لك علينا، والله ما نخاصمك في زمزم أبداً، إنَّ الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الَّذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع، ورجعوا معه، ولم يصِلوا إلى الكاهنة، وخَلُّوا بينه وبين زمزم».
قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغني عن عليِّ بن أبي طالبٍ في زمزم [البيهقي في الدلائل (1/93 – 94) وابن هشام (1/151 – 153)] وقد ورد في فضل ماء زمزم أحاديث كثيرةٌ، فمنها: ما رواه مسلمٌ في صحيحه في قصَّة إسلام أبي ذرٍّ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّها مباركةٌ، إنَّها طعامُ طُعْمٍ» [مسلم (2473)].
وروى الدَّارقطنيُّ [(2713)] والحاكم [(1/473)] وصحَّحه عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شُرِبَ له: إنْ شربته لتستشفي، شفاك الله! وإن شربته لشبعك، أشبعك الله! وإن شربته لقطع ظمئك، قطعه الله! وهي هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل» قال الشَّيخ محمَّد أبو شهبة – رحمه الله! -: ومهما يكن من شيءٍ فقـد صحَّح الحافظ الدِّمياطيُّ – وهو من الحفَّاظ المتأخرين المتقنين – حديث: «ماء زمزم لما شُرِبَ له» وأقرَّه الحافظ العراقيُّ.