د. علي الصلابي يكتب: فتح بلغراد من الفتوح الإسلامية الرمضانية
أكملت الدولة العثمانية مسيرة الفتوحات والنجاحات المتتالية، فكانت عملاقًا حضاريًّا جديدًا تغلغل شمالًا وجنوبًا، حتى دخل في العمق الأوربِّي والعربي، ودانت لسلطته بقاع الأرض في قارات العالم القديم، وكان سقوط مدينة بلغراد فاتحة لانتصارات سليمان القانوني في بلاد البلقان وشرق أوروبا، فقد سقطت مدنها تباعا، ولم يعد أمام أمم البلغار والسلاف والصقالبة والمجر إلا الاستسلام، واتخذ سليمان القانوني من بلغراد منصة لإطلاق قواته صوب عاصمة الإمبراطورية النمساوية فيينا عاصمة شرق أوروبا.
السبب المباشر:
في شهر شعبان من سنة 927 هـ أرسل السلطان سليمان القانوني سفارةً للملك المجري الصغير لويس الثاني يطلب منه أداء الجزية السنوية، فرفض الملك لويس دفع الجزية، وقطع رأس السفير العثماني، كانت هذه جريمةً في الأعراف كلها، وتُعتبر إعلانًا صريحًا للحرب، مع فداحة المصيبة، إلا أن هذه الجريمة أعطت السلطان القانوني السبب الشرعي والقانوني الدولي الذي يُبَرِّر الهجوم العسكري على بلجراد.
التجهيز للمعركة:
أعلن السلطان القانوني الحربَ على المجر. تحرَّكت ثلاثة جيوشٍ من اتجاهاتٍ مختلفةٍ للتورية على مقصد الحملة. التقت الجيوش الثلاثة عند أسوار بلجراد في أواخر يونيو 1521م، ولحق بها السلطان بنفسه في آخر يوليو، كانت هذه هي الحملة الأولى لسليمان القانوني، وكانت حملةً كبيرةً للغاية، وصلت في بعض التقديرات إلى مائة ألف جندي، واستأجرت الدولة العثمانية حوالي ثلاثين ألف جمل من الأناضول وشبه الجزيرة العربية لنقل الأسلحة العسكرية، وكان هناك بالإضافة إلى عشرة آلاف عربة محمَّلة بالغذاء، مع خمسين سفينةً حربيَّةً من خلال نهر الدانوب.
أحداث المعركة:
كان فتح بلغراد من يوليو-29 أغسطس 1521م / 26 رمضان 927 هـ. وقد حاصر السلطان سليمان القانوني قلعة بلغراد المجرية.
كان قصف المدينة قد بدأ من منتصف يوليو قبل مجيء السلطان، واستمر بقوَّة لأكثر من ثلاثة أسابيع، وكان القصف من النهر أكثر من البرِّ، وتخلَّل القصف محاولتين غير ناجحتين لاختراق الأسوار؛ ولكن المحاولة الثالثة في الثامن من أغسطس كانت ناجحة، حيث تم تقويض جدرانها بالألغام وسبعة أيام من القصف العنيف، بعد ذلك تم غزو المدينة دون صعوبة كبيرة مع فقدان القليل من الجنود، وسقطت المدينة الحصينة! انسحب الجيش المجري المدافع عن المدينة إلى قلعتها. حاصر الجيش العثماني القلعة وأسقطها، وبذلك انتهت المقاومة تمامًا، وصارت المدينة في يد العثمانيِّين، وهو الوضع الذي سيستمرُّ إلى القرن التاسع عشر.
بعد المعركة:
أعلن السلطان هذا الانتصار بالكتابة إلى الولاة جميعهم، وإلى ملوك أوروبا، ورئيس جمهورية البنادقة، ثم عاد إلى القسطنطينية مكللاً بالنصر والظفر على الأعداء، وأرسل إليه قيصر الروس يهنئه بالفوز والظفر، وكذلك فعل رئيس جمهورية البندقية وراجوزه، وقد تمكن المسلمون العثمانيون بفضل هذا الفتح من التقدم لفتح بلاد ما وراء نهر الدانوب. وبعد ذلك تحولت المدينة إلى قاعدة عسكرية مهمة بالنسبة للعثمانيين لمتابعة المزيد من الحروب والعمليات العسكرية في قلب أوروبا وفي مناطق وراء نهر الدانوب، وأصبحت بلغراد من أكبر المدن في أوروبا.
نتائج وأهمية الفتح:
وكان انتصارًا مجيدًا؛ فقد حقَّق آثارًا إيجابيَّةً كبيرةً أكثر بكثيرٍ من مجرَّد إسقاط مدينةٍ حصينة، فتح هذا النصر، أولًا: الطريق إلى مملكة المجر.
وثانيًا: أحدث هزَّةً عظيمةً للنظام السياسي في المجر، فصار متوقعًا لضربةٍ قاضيةٍ قريبة.
وثالثًا: عزَّز هذا النصر ثقة السلطان الشابِّ في نفسه وجيشه؛ فهذه أوَّل حملاته، فإذا به يُحقِّق ما لم ينجح جدُّه الأعظم الفاتح في تحقيقه.
ورابعًا: كانت هذه رسالةٌ قويَّةٌ إلى إمبراطورية النمسا تجعلها تُعيد حساباتها في تقييم الوضع الجديد للدولة العثمانية.
وخامسًا: حقَّق هذا النصر رهبةً عند القوى الأوروبية المختلفة، وأهمُّها بالنسبة إلى الدولة العثمانية هي جمهورية البندقية، التي سارعت بطلب تجديد المعاهدة التجارية، وهو ما كان يُريده السلطان ليضمن حياد البندقية في أثناء تجهيزه لفتح رودس، وكذلك لحربه المرتقبة مع المجر في مواطن أخرى.
المراجع:
1- تاريخ الدولة العلية العثمانية، محمد فريد بك، تح: إحسان حقي، دار النفائس، الأولى، ص 200.
2- الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، د. خليل إينالجيك، ترجمة: محمد الأرناؤوط، دار المدار الإسلامي، الأولى، 2002، ص 227.
3- الدولة العثمانية، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، دمشق.
4- كتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 420- 423.
5- يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/262.