د. علي الصلابي يكتب: واقع البشرية قبيل الإسلام
كانت الإنسانية قبل بزوغ فجر الإسلام العظيم، تعيش مرحلةً من أحطِّ مراحل التَّاريخ البشريِّ في شؤونها الدِّينيَّة، والاقتصاديَّة، والسياسية، والاجتماعيَّة، وتعاني فوضى عامَّةً في جميع شؤون حياتها، وهيمن المنهج الجاهليُّ على العقائد، والأفكار، والتصوُّرات، والنُّفوس، وأصبح الجهل، والهوى، والانحلال، والفجور، والتجبُّر، والتعسُّف من أبرز ملامح المنهج الجاهليِّ المهيمن على دنيا النَّاس.
وضاع تأثير الدِّيانات السَّماوية على الحياة – أو كاد – بسبب ما أصابها من التَّبديل، والتَّحريف، والتَّغيير، الَّذي جعلها تفقد أهميتها باعتبارها رسالة الله إلى خلقه، وانشغل أهلها بالصِّراعات العقديَّة النَّظريَّة التي كان سببها دخول الأفكار البشريَّة، والتَّصوُّرات الفاسدة على هذه الأديان، حتَّى أدَّى إلى الحروب الطَّاحنة بينهم، ومَنْ بقي منهم لم يحرِّف، ولم يبدِّل قليلٌ نادر، وآثر الابتعاد عن دنيا الناس، ودخل في حياة الخلوة، والعزلة طمعاً في النَّجاة بنفسه يأساً من الإصلاح، ووصل الفساد إلى جميع الأصناف، والأجناس البشريَّة، ودخل في جميع المجالات بلا استثناء، ففي الجانب الدِّينيِّ تجد النَّاس إمَّا أنَّهم ارتدُّوا عن الدِّين، أو خرجوا منه، أو لم يدخلوا فيه أصلاً، أو وقعوا في تحريف الدِّيانات السَّماوية، وتبديلها. وأمَّا في الجانب التَّشريعي، فإنَّ النَّاس نبذوا شريعة الله وراءهم ظهريّاً، واخترعوا من عند أنفسهم قوانين، وشرائع لم يأذن بها الله، تصطدم مع العقل، وتخالف الفطرة.
وتزعَّم هذا الفساد زعماءُ الشُّعوب، والأمم من القادة، والرُّهبان، والقساوسة والدَّهاقين، والملوك، وأصبح العالم في ظلامٍ دامسٍ، وليلٍ بهيمٍ، وانحرافٍ عظيمٍ عن منهج الله سبحانه وتعالى.
فاليهودية: أصبحت مجموعةً من الطُّقوس، والتَّقاليد لا روح فيها، ولا حياة، وتأثَّرت بعقائد الأمم الَّتي جاورتها، واحتكَّت بها، والَّتي وقعت تحت سيطرتها، فأخذت كثيراً من عاداتها، وتقاليدها الوثنيَّة الجاهليَّة، وقد اعترف بذلك مؤرِّخو اليهود؛ فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية: «إنَّ سخط الأنبياء، وغضبهم على عبادة الأوثان تدلُّ على أنَّ عبادة الأوثان، والآلهة كانت قد تسرَّبت إلى نفوس الإسرائيليين، ولم تستأصل شأفتها إلى أيَّام رجوعهم من الجلاء، والنَّفي في بابل، وقد اعتقدوا معتقداتٍ خرافيَّة، وشركيَّة. إنَّ التُّلمود أيضاً يشهد بأنَّ الوثنيَّة كانت فيها جاذبيةٌ خاصَّةٌ لليهود».
إنَّ المجتمع اليهوديَّ قبل البعثة المحمَّدية، قد وصل إلى الانحطاط العقليِّ، وفساد الذَّوق الدِّينيِّ، فإذا طالعت تلمود بابل؛ الذي يبالغ اليهود في تقديسه، والذي كان متداولاً بين اليهود في القرن السَّادس المسيحيِّ؛ فستجد فيه نماذج غريبةً من خفَّة العقل، وسخف القول، والاجتراء على الله، والعبث بالحقائق، والتَّلاعب بالدِّين، والعقل.
أمَّا المسيحيَّة: فقد امتُحنت بتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، واختفى نور التَّوحيد، وإخلاص العبادة لله وراء السُّحب الكثيفة، واندلعت الحروب بين النَّصارى في الشَّام، والعراق، وبين نصارى مصر حول حقيقة المسيح، وطبيعته، وتحوَّلت البيوت، والمدارس، والكنائس إلى معسكراتٍ متنافسةٍ، وظهرت الوثنية في المجتمع المسيحيِّ في مظاهر مختلفةٍ، وألوانٍ شتَّى. لقد اندلعت الحروب بين النَّصارى، وكفَّر بعضُهم بعضاً، وقتل بعضُهم بعضاً، وانشغل النَّصارى ببعضهم عن محاربة الفساد، وإصلاح الحال، ودعوة الأمم إلى ما فيه صلاح البشريَّة.
وأمَّا المجوس: فقد عُرفوا من قديم الزَّمان بعبادة العناصر الطَّبيعيَّة، وأعظمها النَّار، وانتشرت بيوت النَّار في طول البلاد وعرضها، وعكفوا على عبادتها، وبنوا لها معابد، وهياكل، وكانت لها آداب، وشرائع دقيقةٌ داخل المعابد، أمَّا خارجها؛ فكان أتباعها أحراراً يسيرون على هواهم، لا فرق بينهم وبين من لا دين له.
ويصف المؤرِّخ الدَّنماركيُّ طبقة رؤساء الدِّين، ووظائفهم عند المجوس في كتابه: «إيران في عهد السَّاسانيِّين» فيقول: «كان واجباً على هؤلاء الموظَّفين أن يعبدوا الشَّمس أربع مرَّات في اليوم، ويضاف إلى ذلك عبادة القمر، والنَّار، والماء، وكانوا مكلَّفين بأدعيةٍ خاصَّةٍ، عند النَّوم، والانتباه، والاغتسال، ولبس الزنَّار، والأكل، والعطس، وحلق الشَّعر، وتقليم الأظفار، وقضاء الحاجة، وإيقاد السُّرج، وكانوا مأمورين بألا يدعوا النَّار تنطفئ، وألا تمسَّ النَّار، والماء بعضها بعضاً، وألا يَدَعوا المعدن يصدأ؛ لأنَّ المعادن عندهم مقدَّسةٌ».
وكان أهل إيران يستقبلون في صلاتهم النَّار، وقد حلف «يزدجرد» – آخر ملوك السّاسانيين – بالشَّمس مرَّةً، وقال: «أحلف بالشَّمس التي هي الإله الأكبر». وقد دان المجوس بالثَّنويَّة في كلِّ عصرٍ، وأصبح ذلك شعاراً لهم، فآمنوا بإلهين اثنين: أحدهما: النُّور، أو إله الخير، والثاني: الظَّلام، أو إله الشَّرِّ.
أمَّا البوذيَّة: في الهند وآسيا الوسطى: فقد تحوَّلت إلى وثنيةٍ تحمل معها الأصنام حيث سارت، وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل بوذا حيث حلَّت، ونزلت.
أمَّا البرهميَّة: دين الهند الأصليُّ، فقد امتازت بكثرة المعبودات، والالهة، وقد بلغت أوْجها في القرن السَّادس الميلاديِّ، ولاشكَّ: أنَّ الديانة الهندوكيَّة، والبوذيَّة وثنيتان سواءٌ بسواءٍ.
لقد كانت الدُّنيا المعمورة من البحر الأطلسي إلى المحيط الهادي غارقةً في الوثنيَّة، وكأنما كانت المسيحيَّة، واليهوديَّة، والبوذيَّة، والبرهميَّة، تتسابق في تعظيم الأوثان، وتقديسها، وكانت كخيل رهانٍ تجري في حلبةٍ واحدةٍ.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عموم هذا الفساد، لجميع الأجناس، وجميع المجالات بلا استثناء، فقد قال صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ في خطبته: «ألا إنَّ ربِّي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهلتم ممَّا علَّمني يومي هذا؛ كلُّ مالٍ نَحَلْتُه عبداً حلالٌ، وإنِّي خلقت عبادي حنفاء كلَّهم، وإنَّهم أتتهم الشَّياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لمْ أُنْزِلْ به سلطاناً، وإنَّ الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم: عربهم، وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب».
والحديث يشير إلى انحراف البشريَّة في جوانب متعددةٍ، كالشِّرك بالله، ونبذ شريعته، وفساد المصلحين من حملة الأديان السَّماويَّة، وممالأتهم للقوم على ضلالهم.
المراجع:
1- علي محمد محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2004، ص 17-20.
2- سلمان العودة، الغرباء الأولون، ص 57.
3- أبو الحسن الندوي، السيرة النبوية، ص 20-27.