الأثنين مايو 20, 2024
أقلام حرة

د. علي محمد عودة يكتب: طرسوس عروس الثغور الشامية

طرسوس عروس الثغور الشامية وصفها احد مؤرخي القرن الرابع فقال:(مدن الشام مثل نسوة جلوس وطرسوس تلمع بينهن بمنزلة العروس) وتقع الان في تركيا.

جدد هارون الرشيد بناءها وتحصينها وتقوية أسوارها بعد ان اشار عليه بذلك قائده الرائع الحسن بن قحطبة الطائي فأصبحت من أعظم مدن عالم الإسلام. وقد غزا الحسن بن قحطبة الطائي الروم غزوات مظفرة وقتل منهم عددا كبيرا حتى سموه التنين والبعض منهم سماه الشيطان بسبب ما أوقعه بهم من خسائر.

ومن الذين رابطوا وجاهدوا في طرسوس من علماء الإسلام المحدث العظيم احمد بن شعيب النسائي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وإبراهيم بن أدهم وغيرهم.

وتقع طرسوس على نهر يسمى البردان وكان المؤرخون المسلمون يعجبون من مياهه التي تتصف في الصيف بشدة البرودة وفي الشتاء بالدفء، ومرد هذه الظاهرة أن مياهه تتكون في الشتاء من الأمطار وفي الصيف من ذوبان الثلوج التي على جبال طوروس ومن الطبيعي أن تكون باردة صيفا دافئة شتاء.

وفي سنة 290 جرى إحصاء لعدد دور طرسوس وطرقها فوجدوا فيها 30 ألف دار وألفي طريق، وبعض الدور ضخمة جدا بحيث يسكن فيها 150 فارس بخيولهم وأسلحتهم

وكان الناس يقولون زينة الإسلام ثلاث، التراويح بمكة، والجمعة بجامع المنصور ببغداد، والعيدين بطرسوس حيث يخرج أهلها بأسلحتهم وخيلهم يوم العيد، وكان هدف أهل طرسوس من هذا العرض العسكري يوم العيد أن يصل الخبر إلى الروم بقوة أسلحتهم وخيلهم فيقع الرعب في قلوبهم فلا يرغبون في قتالهم.

وكان جامع طرسوس أعجوبة في عالم الإسلام حيث يرابط فيه عدد كبير من المطوعة المسجدية، مقيمون في المسجد للعبادة وكل واحد منهم معه أسلحته بكاملها ويقضون وقتهم كله في الصلاة، ماعدا الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، ولا يخرجون إلا لزيارة مريض أو حضور جنازة مجاهد، أو عندما يخرجون لغزو الروم.

وكان يحيط بطرسوس عدد من الحصون القريبة إلى بلاد الروم لتنذر أهل طرسوس إذا جاء الروم صوب طرسوس فيخرج أهل طرسوس للتصدي لهم وصد عدوانهم، وعندما يصل الخبر بقرب الروم يخرج المحتسب ورجاله إلى شوارع طرسوس ينادون المجاهدين بأعلى أصواتهم للخروج لصد الروم ويسير معهم الصغار يساعدونهم.

ومن أئمة طرسوس العباد أبو سعيد النباجي كان مرة يصلي بالناس صلاة الظهر وسمع الناس اثناء الصلاة المحتسب ينادي بالنفير فلم يخفف الصلاة ولاموه.

فقال النباجي إنما سميت صلاة لأنها اتصال بالله وما حسبت أن أحدا يكون في صلاة فيقع في سمعه غير ما يخاطب الله به.

لم يسمع. آه أين نحن من صلاتهم.

روى ابوسعيد النباجي قال: كنا في غزوة في بلاد الروم فرأيت فتى عليه حلة من ديباج بدل الدرع وعلى رأس عمامة حمراء بدل الخوذة وسمعته يردد أبياتا منها-:

أنا في أمر رشاد بين صوم وجهاد

بدني يغزو عدوي والهوى يغزو فؤادي

فلما وقع القتال مزق صفوف الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة.

ولما انهزم الروم سألته:يا فتى هذه الحلة وهذا الشعر وهذا القتال لايشبه بعضه بعضا؟ يريد تفسير كأنه عريس في لبسه وعاشق في شعره ومستشهد في قتاله.

فقال الفتي: أحببت ربي فشغلني حبه عن حب ما سواه فتزينت لحور العين لعلهن يخطبنني من مولاهن.

وهنا فهم ابوسعيد عدم التناقض بين الأفعال الثلاثة

من الذين كانوا في طرسوس رزام المجنون وكان يهذي ويؤذي فإذا خرج الجيش خرج معه وحمل سيفا وترسا فإذا لقي العدو أفاق من جنونه وقتل منهم عددا كبيرا.

ومن الذين دعموا طرسوس بالمال والرجال احمد بن طولون حاكم مصر كما أوقف المسلمون الأوقاف الكثيرة للثغور في العراق والشام ومصر ولكن ولكن ولكن.

بعد نهاية القرون الثلاثة الخيرة”المفضلة” يحدث النكوص عن منهج محمد وعن التمسك بسنته فتتقدم القوى الرافضية وتسيطر على الحكم، وهي الدولة العبيدية واتباعها القرامطة والدولة البويهية الفارسية التي سيطرت على بغداد والعراق سنة 334 هجرية وقطع البويهيون المدد عن الثغور كلها، وتحالف العبيديون مع الروم وأخذ البويهيون أوقاف الثغور وبدأ الضعف وانهيار الروح المعنوية يدب في أهل الثغور بعد أن تعرضوا للخيانة من الخلف.

ونتج عن تحالف العبيديين مع الروم ان استولى الروم على كريت سنة 351 وعلى قبرص سنة 352 واخذ العبيديون يهاجمون مصر من شمال افريقية للاستيلاء عليها، واخذ الروم في إضعاف الثغور بحرق حقول القمح حولها قبل حصادها وحرق كل بساتينها ومزروعاتها مما أضعفها كثيرا بعد قطع البويهيين المدد عنها نهائيا.

وبلغ الضعف بأهل طرسوس حدا مبكيا حتى أنهم أكلوا الكلاب والقطط والميتات من شدة الجوع وكانوا يودعون كل يوم أكثر

من 300 جنازة تموت من الجوع والمرض.

وجاء ملك الروم نقفور فوكاس سنة 354 الى المصيصة جارة طرسوس في مئة ألف واقتحمها بالقوة وقاتل أهلها الروم من شارع إلى شارع ولكنهم غلبوا، وقتل فوكاس معظم سكان المصيصة ونقل الباقين إلى بلاد الروم ونصرهم بالقوة واحضر مئة من وجهاء المصيصة وضرب أعناقهم إمام أسوار طرسوس ليرهب أهلها.

ولما اشتد الجوع والحصار باهل طرسوس طلبوا من فوكاس أن يسلموه البلد على أن يسمح لهم بالخروج في أمان إلى الشام فوافق على ذلك وغادروها باكين.

طرسوس هي غير طرطوس في سوريا الآن. وهي في تركيا جنوب جبال طوروس ويسميها الأتراك حاليا ترسيس.

Please follow and like us:
د. علي محمد عودة
أستاذ متخصص في تاريخ الحروب الصليبية، وتاريخ العدوان الفكري الغربي على الإسلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب