د. غازي التوبة يكتب: القضية الفلسطينية أسيرة مشروعين «الصهيوني» و«الملالي»
تمر القضية الفلسطينية الآن بمرحلة جديدة من نوعها، وخرجت عن مسارها الطبيعي، وأصبحت مأزومة تحتاج إلى معالجة جذرية جديدة، فما هي هذه الأزمة؟ وكيف يمكن أن تعالج؟
حتى نستطيع توضيح معالم الأزمة التي تعيشها القضية الفلسطينية، علينا أن نتفحص أوضاع أهم حركتين تعملان في الساحة الفلسطينية ،وهما «حركة فتح» و«حركة حماس».
من المعلوم أن «حركة فتح» نشأت في خمسينيات القرن الماضي، وبدأت العمل الفدائي مطلع عام 1965، حيث قامت «قوات العاصفة» وهي جناحها العسكري بأول عملية فدائية في شمال فلسطين، ثم استمرت الأعمال الفدائية إلى أن وقعت نكسة يونيو عام 1967، والتي كانت هزيمة للفكر القومي الاشتراكي الذي قاد العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية.
وقد قدمت «حركة فتح» نفسها لمحيطها الذي كانت تعمل فيه ،بأنها حركة وطنية،تستهدف تحرير فلسطين من خلال الكفاح المسلّح ،وأعلنت أنها غير معنية بالطروحات الأيديولوجية والفكرية التي كانت تعج بها المنطقة، من أمثال: الفكر القومي والإسلامي والشيوعي والاشتراكي…، وأنها لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وأنها تقبل أي شخص مهما كانت خلفيته الفكرية، سواء إسلامياً أم اشتراكياً أم قومياً…الخ، شريطة أن يبقي هذه الأفكار لذاته ،ويعمل فقط ضمن الإطار الوطني للحركة ،من أجل تحرير فلسطين.
وكان يمكن أن تبقى حركة فتح مغمورة ومحدودة الوجود والتأثير، لولا وقوع نكسة حزيران التي حطمت «النظام العربي» الذي كانت تقوده مصر بزعامة جمال عبد الناصر، وهنا اضطر جمال عبد الناصر ومعه النظام العربي إلى استدعاء «العمل الفدائي» ومعه «حركة فتح» لكي يمتصا جانباً من آثار النكسة، فقابل جمال عبد الناصر قيادة «حركة فتح» في القاهرة ومنحها الدعم الإعلامي والسياسي والعسكري ..إلخ.
ثم أقدم جمال عبد الناصر عام 1969 على عزل أحمد الشقيري من رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية، وعين ياسر عرفات رئيساً لها ،كما أقدم على تسليم منظمة التحرير حينها إلى «حركة فتح»، فأجرى ياسر عرفات تغييرات كبرى في جميع هياكلها إداراتها، ثم أقدم على خطوة مهمة عام1969، وهي أنه غير ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن جمع لذلك المجلس الوطني، واستبدل كلمة «الوطنية» بكلمة «القومية» في كل بنود الميثاق، وكان هذا إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من القضية الفلسطينية، تحت عنوان «الوطنية الفلسطينية».
ثم ساد «العمل الفدائي» العالم العربي وساندته الدول العربية، واشتعلت العمليات الفدائية على طول الحدود الأردنية واللبنانية والسورية، واستمرت الجبهات ملتهبة إلى أن اصطدم الفدائيون مع النظام الأردني، ووقعت معركة بين الفدائيين في الأردن وبين الجيش الأردني في أيلول 1970، واستطاع الجيش الأردني إخراج الفدائيون نهائياً من الأردن في عام 1972 بعد أن قتل الآلاف منهم.
ثم انتقل العمل الفدائي إلى لبنان، وتعاون مع الحركة الوطنية اليسارية في لبنان بقيادة كمال جنبلاط وسيطر على لبنان. ولكن إسرائيل هاجمت لبنان عام 1982،وأخرجت العمل الفدائي من لبنان.
ثم قامت الانتفاضة عام 1987،وكانت الجماهير الإسلامية مادتها الرئيسية ،واستمرت إلى عام 1993 عندما وقع ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية أوسلو مع إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل في أيلول من عام 1993.
ثم قام الحكم الذاتي في غزة والضفة بقيادة ياسر عرفات، وانتقلت رئاسة الحكم الذاتي إلى محمود عباس بعد وفاة ياسر عرفات عام 2006.
ونكثت إسرائيل بكل وعودها بإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة بعد حرب عام 1967، وأطلقت يد الصهاينة المتطرفين في توسيع المستوطنات وفي قضم الأراضي الفلسطينية، وأصبحت «حركة فتح» التي تقود الحكم الذاتي في فلسطين ملزمة بالتنسيق الأمني، ومراقبة شعبها، ومطاردة الفدائيين المقاتلين، والعمل على حراسة إسرائيل. وهذه هي المهمة الحقيقية التي تقوم بها «حركة فتح» الآن، وهي الحكم الذاتي لصالح إسرائيل ،بهذا أصبحت أسيرة المشروع الصهيوني،ولا تستطيع القتال، ولا يمكن أن تخرج من هذه الخدمة قيد أنملة، ولا تستطيع خدمة القضية الفلسطينية، بل هي تخدم إسرائيل.
وبالمقابل هناك «حركة حماس» قادت التيار الإسلامي، والجماهير المسلمة في فلسطين منذ نهاية عام1987، ثم اندلعت «انتفاضة الحجارة»، ثم أعلنت ميثاقها في الشهر الثامن من عام 1988 باسم «حركة المقاومة الإسلامية» «حماس».
ثم أقامت «حركة حماس» علاقة مع «حزب الله» ،عندما طرد الصهاينة مئات الأعضاء من «حماس» إلى مرج الزهور، ثم تطورت هذه العلاقة مع «ملالي إيران» في طهران، ثم ازدادت تطوراً، وأصبح هناك ارتباط وثيق بين مشروع «ملالي طهران» و«حركة حماس».
وأمد «نظام الملالي» حركة حماس بالمال والسلاح والخبرات العالية، وكان عراب هذه العلاقة «قاسم سليماني»، ثم توطدت هذه العلاقة لتصبح «حركة حماس» جزءً من «مشروع المقاومة والممانعة” الذي يقوده «ملالي طهران» وتشترك فيه كل من «سورية»، و«حزب الله» في لبنان ، و«الحركات الشيعية» في العراق، و«الحركة الحوثية» في اليمن.
ثم أقام قسم كبير من قيادات «حركة حماس» في سورية بعد أن أبعدهم النظام الأردني عام 2000 وعلى رأسهم «خالد مشعل» الأمين العام للمكتب السياسي آنذاك.
ثم اضطرت «قيادات حماس» بعد اندلاع «الربيع العربي» في شهر فبراير من عام 2012 إلى مغادرة دمشق لأنها رأت ضرورة الوقوف إلى جانب الشعب السوري في ثورته ضد النظام الأسدي، ورأت أنه لم يعد البقاء لائقاً ومناسباً ، بعد أن اتضح عمق الهوة بين النظام الأسدي والشعب السوري.
وبقيت علاقة حماس منقطعة مع النظام السوري قرابة العشر سنوات، ولكنها بقيت مستمرة مع «نظام الملالي»، ثم أعادت «حركة حماس» علاقتها مع النظام السوري في شهر تشرين الأول من عام 2022، فزار وفد من «حماس» برئاسة خليل الحية دمشق، و هذا يؤكد على أن حركة «حماس» أصبحت مأسورة «لنظام الملالي» لا تستطيع مخالفة أوامره وتوجيهاته، لأنها خسرت بهذه العودة جزءاً كبيراً من أمتها التي تؤيدها وتقف إلى جانبها، وخالفت جانباً من مبادئها الإسلامية التي تقوم عليها، وهي خسارة أكبر من أي ربح يمكن أن تحققه من تواجدها في دمشق.
وقد وضحت «قيادة حماس» -في أكثر من موقف- أنها مضطرة لاستمرار العلاقة مع «نظام الملالي» نتيجة حاجتين اثنتين وهما:
الأول: التمويل المالي وبخاصة بعد ان توقف التمويل الخليجي عنها، واثر قوانين مكافحة الإرهاب التي فرضتها أمريكا .
الثاني: الخبرات القتالية والعسكرية التي تأخذها عن طريق حزب الله .
ومن الواضح الآن أن الحركة «حماس» أصبحت أسيرة لـ«نظام الملالي» في طهران مالياً، وأصبحت أسيرة لـ«حزب الله» في لبنان عسكرياً. وبهذا أصبح «نظام الملالي» لاعباً أساسياً في القضية الفلسطينية، ممسكاً بتلابيبها، وأصبحت كل الأطراف العاملة على ساحة القضية الفلسطينية سواء أكانت «حركة حماس» أم «حركة الجهاد» أو غيرهما أوراقاً لصالح «مشروع الملالي» يحركها كـ«بيادق» لصالح مشروعه السياسي والثقافي والعسكري في المنطقة.
الخلاصة: من الواضح أن حركتي «حماس» و«فتح» لم تعودا طليقتي الحركة، بل مرهونتين للمشروعين «الملالي» و«الصهيوني». فمشروع «الملالي» مهمته تفتيت الوحدة الثقافية والسياسية للأمة ،وهذا ما حققته في العراق وسورية ولبنان واليمن، فدمّر كل هذه البلدان عمرانياً وثقافياً، وجزأها سياسياً. وهو ماض في تحقيق مهمته في بقية أنحاء العالم العربي والإسلامي، مثل: مصر، والجزيرة العربية، والمغرب العربي، و أفريقيا، وشرق آسيا إلخ….
ثم يأتي «المشروع الصهيوني» ليقطف ثمرات هذا التدمير العمراني والثقافي والسياسي الذي يقوم به «مشروع الملالي» ويبني عليه ويمكنّ لنفسه، فبعد أن تمكن «مشروع الملالي» من تفكيك «الجيش العراقي» بالتعاون مع «بريمر» عام 2003 وإنهاء كيانه العسكري، غيرت إسرائيل «عقيدتها القتالية»، وأنهت من «عقيدتها القتالية» محور «الجبهة الشرقية» الذي كان يمثله الجيش العراقي، والذي هو من أقوى الجيوش العربية وأعرقها خلال القرن الماضي.
أما «حركة فتح» فقد أصبحت مرهونة لـ«المشروع الصهيوني» بعد «اتفاقية أوسلو» عام 1993، ولم تعد «حركة وطنية» إنما تحولت إلى موظف عند إسرائيل يقوم بدور وظيفي هو «الحكم الذاتي». ويقوم رجالات سلطة «الحكم الذاتي» بحراسة إسرائيل، ومطاردة شعبهم، وقمع ثوراتهم، مقابل استمتاعهم بهذه السلطة، ومباهجها من أموال وسيارات وقصور واستعراضات إلخ… .
ويستفيد «المشروع الصهيوني» من ارتهان «حركة فتح»، وقيامها بدور وظيفي وهو دور «الحكم الذاتي»، في قضم الأراضي الفلسطينية من خلال توسيع الاستيطان في الضفة الغربية بشكل عام، وقضم أحياء القدس الشرقية بشكل خاص.
ويتطلع «المشروع الصهيوني» من خلال التوظيف لـ«حركة فتح» في «الحكم الذاتي» إلى طرد العرب الذين يعيشون داخل حدود عام 1948، وكذلك إلى طرد عرب الضفة الغربية أيضاً إلى شرقي الأردن، وذلك من أجل أن يحقق «المشروع الصهيوني» هدفين، وهما: تحقيق «يهودية الدولة» بشكل كامل من جهة، والوصول إلى «إسرائيل الكبرى» من جهة ثانية.