د. فتحي أبو الورد يكتب: سلفية أبي إسحاق الحويني رحمه الله

شاءت إرادة الله أن أتعرف عن قرب إلى العالم الرباني الشيخ أبي إسحاق الحويني خارج مصر، وهي المدة التي هاجر فيها إلى الله وأثر ما عنده. بعد ان كنت اعرفه معرفة عامة من خلال بعض دروسه ومحاضراته على شاشة التلفاز أو اليوتيوب.
التقيته في زيارته لشيخنا القرضاوي -رحمهما الله تعالى- فوجدته عالما متواضعا زاهدا طيب القلب رقيق الطبع، قريب الدمع، مع ما اشتهر عنه من تفرد وتميز فيما أفنى عمره من أجله في خدمة حديث رسول الله صلى الله عليه، والدفاع عن سنته.
وتوطدت صلتي به بعدها زيارة وتواصلا بقدر ما قدر الله تعالى.
ومما هيأته لي إرادة الله أن كان لي عمل لمدة قصيرة في منطقة سكن الشيخ، فكنت أحرص على صلاة العصر في المسجد الذي يصلي فيه -بصحبة من حضر من أبنائه في الأيام التي لا يذهب فيها إلى المستشفى للغسيل الكلوي- فأحظى بلقائه ودعائه والاطمئنان عليه وعلى اخباره، وكنت انتفع برؤيته ولقائه وصلاحه وحاله ما شاء الله لي أن انتفع.
وكم كانت تعجبني لغته، وأطرب لأدائه وصوته، وفي كثير من الأحيان أسلم لحجته ومنطقه، وكما قال الشافعي “من نَظَر في الحَدِيث قَوِيَتْ حُجَّته، ومَن نَظَرَ في اللّغة رَقَّ طَبْعُه”. وإن كان قد اختلف معه علماء كثر في بعض القضايا الفقهية، وتحفظوا على بعض فتاواه، خاصة في المرحلة الأولى من عطائه العلمي والدعوي. وهذا لا يسلم منه عالم، ومن ذا الذي يصيب في كل كلامه، وفي كل شيء، وقد أبى الله أن يتم كلام إلا كلامه، وكل يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
ومما لا يخفى على ذي عينين أن الشيخ كان سلفي المنهج والمعتقد والأخلاق والسلوك، وكانت سلفية الأخلاق والسلوك في حياته ترجمة عملية لسلفية المنهج والمعتقد.
أما سلفية المعتقد والمنهج فهو إمام في هذا الشأن بلا منازع،
ولا يزايد عليه أحد، وعلى هذا اتفق القاصي والداني.
اما السلفية التي تميز بها أبو إسحاق وتمثلها فهي:
– السلفية التي ترفض الظلم والظالمين، وتنحاز إلى الحق وأهله، وتناصر اهل الجهاد والرباط، ولا يخفى على متابع كلمته في تأييد المقاومة الفلسطينية في غزة للمحتلين، وشهادته في حقها بسنيتها، وحقها في الدفاع عن ارضها.
– سلفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سلفية النصيحة للمسلمين عامتهم وخاصتهم.
– السلفية التي تتعالى على الخلافات في الفروع، وتقلل من شأنها، وتؤثر الاتفاق على الأصول والقواعد، وتعظم الوحدة، وتعزز القواسم المشتركة، والتي لخصها الشيخ رشيد رضا في التعاون على المتفق فيه، والتماس العذر في المختلف فيه.
– سلفية مكارم الأخلاق، وحسن المعاملة، والرفق بالخلق، والشفقة عليهم، ورحمتهم ودعوتهم باللين.
– سلفية التواضع ونبذ التعالي، وإنكار الذات، ولين الكلام، وطيب الحديث.
– السلفية التي تبرهن على أننا دعاة لا قضاة، ومصلحون لا محققون، ومبلغون لا محاسبون للناس، حاكمون على اعمالهم، أو رقباء على ضمائرهم.
وقد كانت هذه مهمة الرسول الأكرم “وما على الرسول إلا البلاغ”.
– سلفية الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، سلفية العلم الغزير، والفهم العميق المقترن بالخلق القويم.
– السلفية التي تؤمن بالاختلاف في الفروع، وتعدد الآراء والمذاهب، والتي تتبني ما تبناه السلف بأنه لا إنكار في المختلف فيه.
– السلفية التي تجمع بين فقه النصوص وفقه تنزيل النصوص.
– السلفية التي تجمع بين فهم الدين وفهم واقع المسلمين.
– السلفية التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، التي تجمع بين المحافظة على الأصول والانفتاح على التجديد، ورفض التقليد والعصبية.
– السلفية المطعمة بقدر من الروحانية المشرقة المعتدلة كما كان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فلم يكونا مجرد مجادلين في العقائد؛ بل كانا ربانيين، أهل روحانية وإشراق. كما يقول شيخنا القرضاوي.
فإنهما مع سلفيتهما المشهورة عنهما كانا من أعظم دعاة الربانية الصادقة والروحانية الصافية، المؤسسة على الكتاب والسنة، ولابن تيمية في مجموع الفتاوى مجلدان في التصوف والسلوك، ولابن القيم موسوعة مشهورة في التصوف هي موسوعة “مدارج السالكين شرح منازل السائرين إلى مقامات “إياك نعبد وإياك نستعين”.
وإذا كان للسلفية فضل وجهد كبيران في تنقية عقائد المسلمين من البدع والخرافات والشركيات عند غلاة الصوفية حتى قال قائلهم تحتاج الصوفية إلى أن تتسلف، فكذلك أقول تحتاج السلفية إلى أن تتصوف. وبطبيعة الحال أعني التصوف المنضبط بالكتاب والسنة.
وكما شرح بعضهم ذلك فقال: نمزج السلفية بالصوفية البعيدة عن الشرك والمبتدعات، ونمزج الصوفية بالسلفية البعيدة عن التكفير والتفسيق والتبديع، ليخرج من بينهما مزيج متوازن منسجم يجمع بين شدة السلفية ورقة الصوفية، كما يخرج من بطون النحل – التي تأكل من كل الثمرات – شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس.
وأشهد أني رأيت في شيخنا الحويني هذا المزيج بين شدة السلفية ورقة الصوفية بمضمونها المحمود، وأحيل القارئ الكريم إلى مقطع قصير سريع بعنوان «اخلع نياشينك» ليرى الحويني السلفي البكاء الرقيق المتجرد الذي دخل قلوب الناس ونفوسهم.
– السلفية المتمسكة بالثوابت والأهداف والمقاصد، والمنفتحة على الوسائل، كما قرر علماؤنا أن الوسائل لها حكم المقاصد.
– السلفية التي توازن بين العقل والنقل، وتؤاخي بينهما، وذلك بالتأليف بين النقل الصحيح والعقل الصريح، التي تقرأ النقل بالعقل، وتحكم العقل بالنقل، نافية تناقض النقل والعقل؛ لأن نقيض العقل ليس النقل، وإنما هو الجنون كما قال أستاذنا الدكتور محمد عمارة.
– السلفية التي توفق بين محكمات الشرع ومقتضيات العصر، وتوازن بين الثوابت والمتغيرات، وتؤمن بالانفتاح في غير ذوبان، والتسامح في غير تهاون.
– السلفية المنفتحة على المسلمين عامة، محبة لهم ومتوددة ومتلطفة وناصحة وداعية وهادية.
– السلفية التي تطفئ الحرائق حيثما اشتعلت، وتئد الفتن متى أطلت، وتجمع كلمة المسلمين ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
– السلفية التي تأخذ من القديم أصلحه، ومن الحديث أنفعه.
– سلفية المنهج الكلي الثابت للسلف، وليس اقوال السلف الجزئية المتغيرة.
فمنهج السلف يعني طريقتهم الكلية في فهم الدين والعمل به وله، وهو منهج قائم على النظر إلى جوهر الدين لا إلى شكله، وإلى مقاصد الشريعة لا إلى حرفيتها، اما أقوال السلف الجزئية فهذه تتأثر بظروف الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وهي تتغير بتغير موجباتها. راجع فقه الوسطية الإسلامية.
وهذه نأخذ منها وندع وفق ما يحقق مقاصد الحق ومصالح الخلق.
إن كثيرا من الناس الذين لا ينسجمون مع التيار السلفي ربما لا يرفضون المنهج السلفي، بيد انهم ينفرون من بعض دعاة السلفية لتشددهم في غير موضع، وتعاليهم على الناس، وجفافهم الروحي، وللأسف -وليسامحني علماء ودعاة السلفية- فإنه كما ظلمت السلفية من خصومها؛ فقد ظلمت على يد بعض أبنائها.
إن الشيخ الحويني – رحمه الله – كان نموذجا يحتذى، وعالما موفقا مسددا من علماء السلفية الذين كانوا للناس جميعا، ولم يكونوا لأصحابهم وأتباعهم وحدهم.
وقد أثر في الناس بأخلاقه وسلوكه قبل ان يؤثر فيهم بمنهجه ومعتقده.
واشهد أنه كان رحب الصدر، لا يضيق بالاختلاف في الرأي، خلال المناقشات العلمية الجادة في مجالس العلم.
إن جنازة الشيخ ومحبة الناس له على اختلاف مذاهبهم الفقهية، واتجاهاتهم الفكرية، خاصتهم وعامتهم، رغم كونه يمثل تيارا إسلاميا سلفيا له ملامح وسمات وخصائص، ثم ذكر الناس لمآثره ومحاسنه ومناقبه، واتفاقهم على اعتداله، وثنائهم عليه حتى من أولئك الذين يتحفظون على التيار السلفي، كل ذلك ينبئك عن عالم رباني. وداعية إلى الله على بصيرة، كان للناس جميعا، قريبا منهم، حريصا عليهم، كما ينبئك عن شيء آخر وهو أن سرا ما بينه وبين الله جعل له القبول عند الناس، كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم بسنده عن ابي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال:
“إنَّ اللَّهَ إذا أحَبَّ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ فقالَ: إنِّي أُحِبُّ فُلانًا فأحِبَّهُ، قالَ: فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنادِي في السَّماءِ فيَقولُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّماءِ، قالَ ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ”.
رحم الله الشيخ أبا إسحاق الحويني، وأجزل الله المثوبة عن الإسلام وأهله، وخدمة سنة نبيه. وعزائي لأبنائه واهل بيته، وجمعنا الله وإياه في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.