صحيحٌ بأنّ غزة هي مأساة الأمة الكبرى في قرننا الحالي، والتي لم تُعانِ بقعة محددة ضيقة مكتظة بالسكان على وجه البسيطة – فيما أعلم -، حتى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما عانت، إذ مُحيت معالمها بالكامل، ودُمّرت جميع زواياها بنسبة تفوق 92% بحسب إحصائيات دولية، وبلغ حجم القنابل التي أُلقيت عليها حتى اليوم – وما زالت تنهمر حتى اللحظة -، وهي تلك المساحة الصغيرة التي يبلغ مقدارها 365 كم² فقط، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 6 و12كم، ويقطن فيها أكثر من 2.2 مليون إنسان، مقدارًا يفوق القنبلة الأمريكية التي أُلقيت على هيروشيما اليابانية عام 1945م – والتي أودت بحياة 140 ألف شخص – بستة أضعاف في أدنى تقدير.
ولكنها – وللحقيقة المحضة – ليست بمأساة فقط على أطفالها الرضّع، وعجائزها الركّع، ونسائها اللاتي فقدن الوالد والولد، والزوج والمنفق، وتلاميذها الذين اتخذوا مدارسها مساكن لهم، فهُدمت من فوق رؤوسهم، ومرضاها الذين فقدوا الدواء والغذاء وأدوات التشخيص والطبيب المعالج، وجدران المشفى الذي يتعالجون فيه، وعبادها الذين هُدمت عليهم المآذن وأسطح المساجد وجدرانها، وشبابها اليافعين الذين أُوصدت أمامهم أبواب الأمل بحياة كريمة، وسكانها المغلوبين على أمرهم، والذين يحاصرهم القريب قبل العدو من جهات غزة الست، على مرأى من الجميع.
بل هي مأساة فاضحة لكل أحد في مشهدنا اليوم.
فقد فضحت ما يُسمى بإنسانية الإنسان، إلا بقايا قلة من أحرار العالم الذين يتواجدون في هذه النقطة من العالم أو تلك، وأثبتت أن شعار “حق الإنسان في الحياة” ليس سوى مجرد شعار استعماري تصدح به قوى الاستكبار والتدمير متى أرادت إذلال هذا الشعب، ونهب ثرواته، وضمان ترسخ تبعيته لهذا الطرف أو ذاك.
وفضحت القيم الغربية المهيمنة، وكذّبت ما يُسمى بالقانون الدولي الضامن – بحسب ما يتلقاه الأطفال في المدارس كذبًا وتلميعًا – لحرية الإنسان وكرامته وسلامته وحقه في الحياة الكريمة، مثبتة أنه لا قانون حاكم فوق قانون الغاب، الذي يأكل فيه القوي المتكبر الضعيف، وينهب ثروته، ويزيف قيمه، ويسلب إرادته، ولا يتوازع فيه ضعفاء الناس غير الإذلال، وضروب القتل، والمرض، والأمية، والتجويع، والتهجير، والمعاناة.
وفضحت مؤسسات العدالة الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان، ومؤسسات العمل الطوعي، وأثبتت أنها ليست بأكثر من أداة استعمارية غاشمة، يستخدمها أعداء الإنسانية متى أرادوا تركيع هذه الدولة، والهيمنة عليها، أو تفريغ خزانة تلك.
وفضحت ما يُسمى بمجلس الأمن، وأثبتت أنه ليس بأكثر من مجلس لتقنين الظلم، وإذلال القوى الناشئة المطالبة بكرامتها وحريتها، ومجرد طاولة للتنسيق بين قوى الاستكبار على توازع النفوذ وتقاسم المصالح ونهب الثروات، ومجرد أداة لتركيع الشعوب المتململة من كثرة الطغيان والبطش والإذلال وكسر الإرادة، والذي ما تزال تمارسه في أوساطها على الدوام قوى النفوذ والهيمنة.
وفضحت ما يُسمى زورًا بالدول الخمس الراعية للسلم والعدالة في العالم، وجلت عِظم وحشيتها، واستهتارها، وعدم مبالاتها بدماء الضعفاء وأشلائهم، وأظهرت ساديتها، وأنها منبت كل فتنة وشر وعدوان في هذه الأرض، والسفّاك الذي يُقال له كرهًا ضامن للسلم، والظالم الذي يُقال مخافةً منه عادل، والناهب المُذل الكاسر لإرادة الشعوب، والذي يُقال له زورًا ونفاقًا: المحافظ على الحقوق، والساعي خلف حفظ كرامة الإنسان، وحريات الشعوب.
وفضحت المؤسسات والطوائف الدينية على اختلاف تنوعها وقياداتها في العالم، وأظهرت كم هي متحكم بها، تابعة لقوى التجبر، فاقدة للإنسانية، غارقة في التعصب والكراهية، بعيدة عن التعاليم الدينية والقيم، لا تنطق إلا حين تُؤمر بالنطق، أو حين تُطالَب بالقيام بدورها في تغرير أتباعها، وتخديرهم، وتخنيعهم، وحرف فكرهم، وتشويه وعيهم، وتفريغ إرادتهم.
وفضحت كثيرًا من حكومات عالمنا الثالث، وأظهرت بأنها ليست بأكثر من جزء من المؤامرة على غزة، وليست بأكثر من ظاهرة صوتية تتظاهر بالكرامة والسيادة أمام شعوبها، وليست بأكثر من مجرد أداة تابعة لقوى الطغيان في الأرض، تمرر أجندتها، وتسهر على مصالحها، وتلهث خلف رغباتها، وتلمّع طغيانها، وتكسر من أجلها خزائنها وإرادة شعوبها، وتعمل على تخلفها، وإغراقها فيما يُلهيها، وتقمع الأحرار على أراضيها.
وفضحت عامة شعوب منطقتنا المسلمة، وجلت كم هي – في مجملها – فاترة التدين، مهتزة القيم، مُغيّبة الوعي، مُضخّمة للأنا، ومُجحفة في حق “نحن”، متأثرة بتقسيمات سايكس بيكو، مسلوبة الإرادة، لاهثة خلف لقمتها ومتعتها، خانعة، ممزقة، لا تردع ظالمًا، ولا تنبه جاهلًا، ولا توقظ غافلًا، ولا تُغيث ملهوفًا.
وفضحت غالب نخب الأمة من المفكرين، والمثقفين، والإعلاميين، وقادة الرأي، وصنّاع التأثير والتوجيه، وأظهرت كم أن كثيرًا منهم مجرد باحث عن لقمته، وخانع مصفق للطغيان، مبرر لحالة الضعف والهوان، غير معني بالحقيقة، ولا معمق للإخاء، ولا حافظ للحرية والكرامة، ولا قائم بدوره المنشود في حفظ الهوية، وتعميق الوعي، وصناعة التأثير والتوجيه الإيجابي في أوساط شعوب المنطقة.
وفضحت كثيرًا من مؤسساتنا العلمائية الرسمية والشعبية، وجلت كم تلك الرسمية منها ضعيفة مفرغة المحتوى، ليس لها من وظيفة إلا في المناسبات والشكليات، وكم تلك الشعبية منها ضعيفة ممزقة، متحزبة، محدودة التأثير والحركة، غير فاعلة، بعيدة عن واقعها، وعن قيادة المجتمع، وعن التأثير في قواه الفاعلة، وبأن غاية ما يمكن أن تصنعه غالبيتها، وترى أنها متى فعلته فقد أبرأت ذمتها وقامت بواجبها تجاه قضاياها: خطبة عصماء، أو فتوى مزوقة، أو بيان رنان – يكون حتى في أحيان غير واقعي، ولا حكيم، ولا متزن – تضعه على صفحاتها في السوشال ميديا.
وفضحت غالب الأحزاب السياسية والجماعات الإسلامية، وأبانت كم هي مغيبة، ممزقة، فاقدة للرؤية، ضعيفة، بعيدة جدًا عن العيش في الواقع وقيادة المشهد، مع استمرار كثير من إدارييها والقائمين على شأنها في التنازع على التصدر باسم رداء المصلحة من جهة، وتوهّم أنها القوة المجتمعية الأولى، ومن يصنع المشهد، فضلًا عن أن يكون من يقوده.
وفضحت إيران وتيار الممانعة، وأبانت أنها مجرد دولة استعمارية طائفية حاقدة، متاجرة بقضية القدس وغزة والمقاومة، لتلمّع من خلالها صورتها، وتُخفي إجرامها بعد أنهار الدماء التي سفكتها، ومشاركتها الفاعلة للغرب في مشاريع القتل، والنهب، والتدمير، والإذلال، والهيمنة التي عانت منها المنطقة.
وفضحت الصهاينة، وأظهرت وحشيتهم المفزعة، وإجرامهم الذي لا وصف له، وعنصريتهم البغيضة، وحقدهم الأعمى، وتعاليهم بالثروة والقوة والنفوذ على مؤسسات الترفيه والتوجيه، وكم هم طغاة سفّاكون، مغتصبون، قتلة، وأنهم لا يرون من يستحق الحياة الكريمة، والحرية، والأمان، والعدالة سواهم.
وفضحت السلطة الفلسطينية، وأبانت حجم خيانتها، وجلت أنها ليست بأكثر من ظاهرة صوتية تُستخدم لقمع المقاومة، وتمرير أجندات الصهاينة، أو قل – إن شئت – مجرد مخفر شرطة في طرف المدينة، معني بقمع الإرادة الفلسطينية، وتطبيع التغول الصهيوني على حقوق الإنسان الفلسطيني، ويقوم على إدارته، وتمويله، ومتابعة شؤونه، ضابط صغير في جهاز الموساد الإسرائيلي.
وفضحت رجال المال المسلمين، والذين لم تحرك في عامتهم مآسي الخلق في غزة، ودماء أهل غزة، وأشلاء أهل غزة، ومجاعة أهل غزة، وموت الناس تحت أنقاض غزة شيئا يذكر.
وفضحت الشباب المسلم المتألم مما يحدث، وأظهرت بجلاء بأن غالب تفاعل الكثير منهم، لم يصل بعد للمستوى المطلوب، الذي يليق بضخامة المأساة الواقعة على أهلنا في غزة.
فاللهم استخدمنا في مراضيك، وجمّلنا مع أهلنا في غزة المدمّرة، ولا تفضحنا بضخامة تقصيرنا، وعِظم صمتنا عمّا يجري في غزة من قتل ممنهج، وتدمير مستمر، وتجويع متعمد، ومشاريع إذلال لا نهاية لها، وتهجير، وكسر إرادة فوق ما نتصور.
والله الهادي.
