في أزماننا هذه، يُفرض التغريب ويُقنَّن المنكر، وتُشاع البدع والضلالات، وتغرق مجتمعاتنا في بحور من الشهوات والشبهات، وتُحجم مظاهر الاحتساب والخير، ويُضيَّق على بث العلم الشرعي والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويُحاط كثير من العلماء والدعوات بأسوار عالية من المنع والتضييق في كثير من بلدان المسلمين.
وفي ظل تلك المخاطر والتحديات، فالمفترض أن يكون ذلك الواقع دافعًا لأهل الإصلاح والغيرة على مضاعفة الجهود، وتحسين العمل، وانتهاز الفرص، وتوسيع دوائر مناشطهم، وأن يكون باعثًا لمعاشر أهل العلم والدعوة والخير على التجديد في الوسائل، وعصرنة الأساليب، مع النقد الدائم للممارسة، وتقييم الجهود، وسد جوانب النقص، وإصلاح الأخطاء، والعناية بتوريث الدعوة، وتأهيل الدعاة. وقد كان من ذلك شيء كثير بحمد الله تعالى، غير أن الخرق قد اتسع على الراقع، والحاجة أكثر من الحركة، وجوانب من التقصير بادية، ومزيد من الأعمال يمكن أن يُقام بها وتُعمَل.
ولعل من أبرز ما يمكن ملاحظته كعوائق مانعة من نشر مزيد من الخير، أو معينات مساعدة على بث أكثر للهدى والمعروف بين الخلق، ما يلي:
1- في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾، والتي نزلت في مصاب المسلمين الكبير في أُحد، إذ قتل المشركون من المسلمين يومئذ سبعين صحابيًا، فقال الناس: (أَنَّىٰ هَٰذَا؟)، أي: من أين أصابنا هذا القتل والهزيمة، وقد تقدم الوعد بالنصرة، ونحن مسلمون، ورسول الله ﷺ فينا، والوحي ينزل عليه فينا؟ فقال الله لرسوله ﷺ في تعليم إجابتهم: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾، أي: بسبب معصيتكم لرسوله ﷺ بترك مواقعكم في ثنايا المعركة، وحرصكم على تحصيل الدنيا والظفر بغنائم الحرب حدث الخلل، ونزل البلاء، وعوقبتم بالشر.
قال أبو زهرة: “وهذا لا يقوله إلا ضعاف الإيمان، لأن المؤمنين الصادقين يدركون خطأهم، ويعرفون تقصيرهم، ويغلبون إسناد عيبهم إليهم على إسناد العيب إلى غيرهم… ويصح أن يقال: إن الذين قالوا من أقوياء الإيمان؛ لأنهم يستعجلون نصر الله تعالى لإعزاز دينه، ويخشون أن يكون الله تعالى تخلى عن نصرتهم لعيوب فيهم، وقد أمر الله تعالى أن يجيبهم، ويزيل تعجبهم”.
فالانكسار في مواجهة الأعداء أو الضعف في القيام بمهام الدعوة والإصلاح على وجهها، مردُّه إلى مقارفة العصيان، والغرق في أوحال الدنيا، والتعلق بلُعاعها وتقديمها على عمل الآخرة.
فليتهم الداعية نفسه، وبخاصة في أزمنة التقصير وهيجان الفتن، وليُكثِر من الاستغفار، وليخشَ من التعلق بالدنيا والعيش من أجلها، فإنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، والله تعالى يقول:
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾.
وقد كان عمر بن عبد العزيز يقول: “ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة”
2- ضرورة التجدد والتكيف مع الواقع ومراعاة التغيرات، وفي هذا السياق ينبغي للداعي إدراك أن الدعوة في أوقات السعة تختلف عن أوقات الشدة والضيق، فقد كانت الدعوة في صدر الإسلام حين كان الناس يخافون على دينهم: فردية سرية، وكان البناء والتربية يتمان في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وبعد الهجرة في المدينة كانت علنية جماعية، تتم في المسجد ومجالس الناس، حين كثر المسلمون وأمِنوا على أنفسهم ودعوتهم.
وهو ما ينبغي للداعية أن يتكيف عليه، فيراعي كل ظرف، ويلبس لكل حالة لبوسها، ولا يجوز له بكل حال أن يدع التكيف مع الواقع؛ بحيث إن تهيأت له حالته التي ألِفها والكيفية التي سار عليها عمل، وإلا توقف!
3- أهمية تحقيق حسن التوكل على الله والثقة التامة به، فإن من كان الله معه أعانه ووقاه وحفظه، واليقين بأن المقدَّر كائن، وبأن المكتوب ما منه مهروب. وفي تقرير هذه الحقيقة يقول ﷺ: “واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن الخلائق لو اجتمعوا على أن يعطوك شيئًا لم يرد الله أن يعطيكه، لم يقدروا على ذلك، أو يمنعوك شيئًا أراد الله أن يعطيكه، لم يقدروا على ذلك، واعلم أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة”.
وحفظ الله إنما يتم للعبد بطاعته والاجتهاد في إتيان مراضيه، لا بالإعراض عن دعوته، وترك تقريب الخلق إليه.
4- إدراك أن واجب الدعوة يعظم في زمن غربة الدين، ولذلك، فينبغي للداعي استحضار فضل التعريف بالله تعالى، والاحتساب في الخير، ودعوة الخلق إلى لزوم دينه، وإقامة شرعته، مع رجاء التحقق بامتثال قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، والخروج من عهدة قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، وقوله ﷺ: “بلِّغوا عني ولو آية”،
وقوله ﷺ: “الدين النصيحة”.
ورجاء الظفر بالثواب الجزيل الذي دل عليه قوله ﷺ: “من دعا إلى الهدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا”، وقوله ﷺ:
“والله، لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا، خير لك من حُمر النَّعَم”، وقوله ﷺ:
“خيركم، أو: أفضلكم، من تعلم القرآن وعلَّمه”.
ورجاء الاتسام بالوصف الذي في قوله ﷺ: “إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء”،
وفي رواية: “فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس”.
5- ضرورة التناصح بين الدعاة والمصلحين، وتواصيهم على الخير، وتثبيت بعضهم بعضًا في أوقات المحن، فالمرء ضعيف بنفسه، قوي بإخوانه. قال تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾.
ففي التواصي بالصبر تثبيت على أداء فرائض الله، وإتيان أوامره، ومفارقة معاصيه. ومن آثار تثبيت الأخ لأخيه في أزمنة الفتن، ما جاء عن عبد الله بن أحمد قال: “كنت كثيرًا أسمع والدي أحمد بن حنبل يقول: رحم الله أبا الهيثم. فقلت: من أبو الهيثم؟ فقال: أبو الهيثم الحداد؛ لما مددت يدي إلى العقاب وأخرجت للسياط، إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي! ويقول لي: تعرفني؟
قلت: لا. قال: أنا أبو الهيثم العيّار اللص الطرّار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرتُ في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فأصبرْ أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين!”.
وهذا الباب جدُّ واسع، وفي الإشارة كفاية.
جعلنا الله تعالى ممن يعملون بالحق، الذين يستخدمهم في طاعته، وممن يُصلح ما أفسد الناس؛ إنه جواد كريم.
والله الهادي.