د. ليلى حمدان تكتب: الروح المعنوية للمسلم.. آية أخرى!
المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يجد فيها درسا عظيما يتكرر في كل نازلة وكرب وفي كل ابتلاء ومراغمة وحرب، يجعل النبي صلى الله عليه وسلم مقابل الصبر والاستقامة، الجنة!
فقط الجنة، لا يقدم مغريات الدنيا ولا يعد صحابته الكرام بالمال والمنصب والغنائم! ولا أي شيء مما يقاتل لأجله الناس في زمانهم!
(لا تغضب ولك الجنة)
(إن شئت صبرت ولك الجنة)
(اضمنوا لي ستا أضمن لكم الجنة)
(فمن وفي منكم فأجره على الله)
(صبراً آل ياسر، فإنَّ موعدَكم الجنة)
وفي بيعة العقبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: “تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجنَّة“.
ولكم الجنة!
كلمة واحدة قامت عليها جميع أسباب الثبات والنصر والتمكين. واستمرت سببا لرفع الروح المعنوية للمسلمين في أشد الأزمنة وأشرس الحروب! وقامت أجيال الذين آمنوا، بين أعينهم كتائب فتح مبين وتمكين يسقى بماء اليقين!
ماذا يريد المسلم غاية أعلى من غاية الجنة!
فأي عدو وأي جيش وأي تحالف يقدر على هزيمته، إن كان قتله شهادة وبلوغ الجنة، وثباته وصبره واحتسابه موجب للجنة وسعادة!
إن كان كل ما يصيبه من لأواء وفقد وأذى في سبيله ربه، موجب للجنة!
وهذه من عظمة منهج النبي صلى الله عليه وسلم المربي الذي قدم مادة تحيي القلوب للأبد، فلا تنهزم أبدا!
مادة أعجزت جميع أكاديميات صناعة الروح المعنوية في الجيوش الغربية والشرقية المحاربة.
يقدمون لجنودهم كل المغريات الدنيوية، من مال ورذيلة ووعود الترقيات وزخرف الدنيا الدنية! ويأتي مقابل كل هذا مؤمن يحمل روحه على راحته، يواجه بقلة عدد وعتاد ترسانة عسكرية متجبرة، يبتسم لها وهي مقبلة، ويلاحقها وهي تفر! قد أبصر خلف أرتال طغيانهم رياض الجنة!
هذا ما يصنعه الإسلام في قلب الإنسان، يرى الجنة في ساحات الموت وإن تناثرت الدماء والأشلاء! يراها في قلب المحن وتداعي الأمم، يراها في ساعة العسرة والخذلان، حين ينفض الناس من حوله، فلا ينهزم قط، بل يكبّر موقنا، ويواصل أبيا شامخا، يحفر الأرض ويخرج من أعماقها الوسيلة والحل، ويعيد البناء من جديد والانطلاق بعزم من حديد، لا يثنيه جيش ولا ترسانة طاغية!
واسألوا التاريخ، فقد أبيد المسلمون في مجازر ترتج لها جدران القلوب فزعا، وماذا بعد؟ رجعت كتائب الفتح تتوعد وتقاتل! قد استمدت أجيال المسلمين القوة والروح المعنوية من مدرسة النبوة المتفردة! تماما كما فعل الجيل المتفرد!
فذاك أنس بن النضر يوم أحد وانكشاف المسلمين يقول: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني أصحابه – وأبرأ إليك مما فعل هؤلاء – يعني المشركين – فانتهى إلى رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟
قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. (مبلغ الابتلاء الأفتك لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم)
فماذا فعل!ّ!
قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟!
قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ثم استقبل القوم، فلقيه سعد بن معاذ دون أحد، فقال سعد: أنا معك.
قال سعد: فاستقبل أنس القوم فلم أستطع أن أصنع ما صنع،
فقال: يا سعد بن معاذ – وفي لفظ يا أبا عمرو – واها لريح الجنة، ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد.
ثم تقدم فقاتل حتى قتل، فوجدوا في جسده بضعا وثمانين ضربة من بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم: قال أنس: ووجدناه قد مثل به المشركون فما عرفه أحد منا إلا أخته بشامة أو ببنانه، فكنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [الأحزاب 23] الآية.
حدثونا عن جميع أسباب رفع الروح المعنوية لمقاتل في قلب الهزيمة! حدثونا عن كيف تفعل كلمة واحدة في قلب مفجوع آمن!
نحدثكم عن الجنة وأنس بن النضر!
هذه مدرسة النبوة، أخرجت لنا هؤلاء الفرسان الأباة الذين أركعوا إمبراطوريات عتيدة بأعداد قليلة وبخرق يلفون بها سيوفهم ورماحهم القديمة!
وهو ما يجب أن يحفظه المسلمون اليوم، روحهم المعنوية العالية، حتى لو دمر الأعداء أرضهم وسلبوهم حقوقهم وطغوا وتجبروا، ثم ماذا؟ كل هذا موجب للجنة التي يعيشون لبلوغها والاستراحة من كدر الدنيا وهمومها التي لا تعني قلبا ينتظر وعد نبيه صلى الله عليه وسلم.
فمن مثل المسلم، روحه المعنوية مرتفعة في كل حال، لا يعرف الهزيمة في أسوأ الأحوال، مقاتل في سبيل ربه إلى آخر رمق، صابر على ما يصيبه في مسيرته لله تعالى محتسب، لا يثنيه عن هدفه الأعظم «الجنة»ـ كافر أو منافق!
فيا أهل غزة، ويا أهل سوريا ويا أهل اليمن، ويا أهل السودان، ويا إخواننا الأويغور والروهينجا وكل مسلم على هذه الأرض يواجه كيدا وحربا وعدوانا يفزع له قلبه.
قف والجنة بين عينيك، وكلمات نبيك صلى الله عليه وسلم تشحذ همتك وتصغر لها كل الدنيا وتسقط بعدها كل جاهلية تحت قدميك، فليأخذوا كل شيء وليدمروا كل ما يمكنهم وأكثر، لكنهم لن يهزموا روح المؤمن العالية جدا، أيها المؤمن أنت الشهم البطل!
وهذا هو النصر الحقيقي، النصر الذي لا يسمح لترسانة يهود وأمريكا وروسيا وكل مرتزق وكافر محارب وكل وحشية، أن تهدم الروح المعنوية في قلوب المسلمين!
لن تتمكن كل مشاهد الدمار والتعمد لنقل مآسينا بالصوت والصورة التي تقطر بصيحات الروع والدماء، من كسر معنوياتنا، ولا حتى أكثر مقاطع التعذيب وحشية وأقبية السجون إجراما، أن تكسرها، لأن كلمة واحدة تتصدى لكل ذلك!
إنها الجنة، أيها المؤمن! حتى لو لم يبق لك في الدنيا شيئا، حتى لو خذلك كل من حولك، حتى لو مشيت حافي القدمين في برد أو حر، ارفع عينيك للسماء وقل يا رب، الجنة!
فأنت المنتصر المظفر.
أيها المسلمون القادم يتطلب روحا معنوية محلقة!
فتزودوا ولا تنهزموا، ورددوا مطلب الجنة! فإن وعد الله حق، وخاب من كسب ظلما.