د. محمد أكرم الندوي يكتب: الأدب القصصي العربي عبر العصور
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد ألِفت خلال زيارتي للدوحة في رمضان سنة 1444هـ بعلماء وباحثين وكتاب متوددين، طيبة قلوبهم، نقية سرائرهم، حسنة معاشرتهم، مستمتعين بالطرف والنوادر، وشيء من الفكاهة والدعابة في غير ابتذال، لا يمل حديثهم، ولا تستثقل صحبتهم، من بينهم الدكتور محمد حسين خان الندوي، ذو وقار وهدوء، وجد واجتهاد، بثَّ إلى باهتماماته الأدبية، وسوابقه التأليفية، وكتابه الأغر الأنيق (الأدب القصصي العربي عبر العصور)، وصادفته من أبعد الناس عن التبعية والتقليد.
يتخرج الألوف كل عام في المدارس العربية الإسلامية المنتشرة في أرجاء شبه القارة المتنائية، فلا ينبغ فيهم إلا قليل، ولا يبدع الكتابة والتأليف إلا أقل من ذاك القليل، وما أعزَّ أن يبرز من بينهم من يعنى بالأدب العربي دراسة ونقدا، إن الكتابات الأدبية عبارة عن الابتكار والبيان، والإجادة والإحسان، وهي ملكة نادرة، وأندر منها ملكة العرض الأدبي والنقد الأدبي، لأنها إحسان، وإدراك لأسباب الإحسان ومناحي الجودة في البيان، والدكتور محمد حسين خان الندوي من هؤلاء الكتاب الأعزة النوادر، إنه لاستمرار لميزة ندوة العلماء في الحس الأدبي والتذوق البلاغي، وهو من خيرة ورَّاث شيوخنا الأدباء النقاد العلامة الشريف محمد الرابع الحسني الندوي، والعلامة الشريف محمد واضح رشيد الندوي رحمهما الله تعالى، والدكتور سعيد الرحمن الأعظمي حفظه الله، وأعظم بتلك النفوس التي حملت راية الأدب العربي في بلد أعجمي، وأرست قواعده ووطدت أركانه، بل أضحت مدرسة تعرف بملامحها وتستقل بعنوانها.
الدكتور حسين تلميذ تلك المدرسة، إنه عالم أريب وناقد أديب، أخذ بقسط من العلوم الإسلامية، وقسط غير قليل من الفلسفة، وقسط أوفر من الدراسات الأدبية العربية، واستفاد من المعهدين العلميين الكبيرين دار العلوم لندوة العلماء بلكنؤ، والجامعة الملية الإسلامية بدهلي، واطلع عن كثب على الاتجاهات الأدبية القديمة والحديثة، فلا شك في استعداده لهذا الموضوع بأكثر من أداة: دقة الملاحظة، وصدق الوصف، وحسن التنسيق والترتيب، وحق لنا أن نقول إن مؤلف هذا الديوان قد استوفى المؤهلات التي لا غنى عنها في إنتاجه من ثقافته الواسعة الرفيعة، وعقله المفكر الواعي، وبيئته العلمية الأدبية.
إن الأدب القصصي لجدير أن يتناوله المتخصصون بدراسات خاصة، فالقصة غارقة في القدم قدم العمران البشري، وهي تشغل بال الإنسان من طفولته إلى شبابه وكهولته، وإلى شيخوخته وهرمه، ويكاد نقاد الآداب العالمية يجمعون على مكانة هذا النوع من الأدب، فإذا كان فن القصة بهذه العراقة وبهذا الشمول والعمق فليس من العدل ولا من السهل التجرد منها أو عزلها عن حياتنا، ولا غرو حين نرى الدراسات عن الأدب القصصي تتجدد وتتنوع على الأزمنة والأعصار، منها هذا الكتاب الذي نقدمه اليوم للقراء،
والذي يحتوي على ثلاثة أبواب منقسمة إلى فصول:
الباب الأول: نظرة عامة على الأدب القصصي،
والباب الثاني: الأدب القصصي العربي في العصر القديم،
والباب الثالث: الأدب القصصي العربي في العصر الحديث.
الباب الأول
أورد المؤلف في الباب الأول معنى القصة وأنواعها، ونشأتها وتنوعها في العصر القديم، ورقيها وازدهارها في الآداب الأوروبية، وفي ظل المذاهب والاتجاهات الأدبية المختلفة السائدة في العصر الحديث، من الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية وما فوق الواقعية والسريالية والوجودية والتعبيرية والواقعية الحديثة، وعناصر القصة الفنية، وأشكالها وألوانها.
الباب الثاني
وعرض في الباب الثاني صور الأدب القصصي وآثاره في العصر القديم بداية من العهد الجاهلي، من الأساطير، والخرافات، وأيام العرب، ومرورا بالعهد الإسلامي:
ما جاء في القرآن الكريم من القصص، وأغراضها، وأنواعها، وميزاتها، ووظائفها، والقصص التي جاءت في الحديث النبوي الشريف، وتطور القصة في العصر الأموي، والعصر العباسي، وقدم أبرز نماذجها وآثارها أمثال (كليلة ودمنة)، و(ألف ليلة وليلة)، و(كتاب الملوك والتيجان)، و(كتاب الأغاني)، و(العقد الفريد)، و(البيان والتبيين)، و(كتاب الحيوان)، و(كتاب البخلاء) وغيرها، وانتهاء بالقصة في العهد المملوكي والعثماني.
الباب الثالث
وتناول في الباب الثالث تطور الأدب القصصي في العصر الحديث إثر النهضة العربية الحديثة: الترجمة والنقل أولا، والمحاكاة والتقليد ثانيا، والكمال والنضج الفني أخيرا، وتحدث عن أبرز أنواع القصة الحديثة، من الرواية، والأقصوصة، والقصة القصيرة، والمسرحية وغيرها.
ولقد استرعى انتباهي هذا الباب الأخير والذي افتتحه بقوله: “كانت للقصة العربية جولة وصولة في كل العصور، فقد تبوأت مكانا لائقا في التراث العربي، وتطورت في جميع العصور مع تطور الأجناس الأدبية الأخرى، دخلت القصة العربية في العصر الحديث بعد النهضة الأدبية الحديثة، فنالت رواجا وانتشارا كبيرين، ووصلت إلى ذروة الفن والكمال، حتى احتلت مكان الصدارة ما بين الأجناس الأدبية الأخرى” ص 555.
وفصول الباب الثالث هي:
الأول: أسباب نشأة وتأخر الفن القصصي في الأدب العربي الحديث، و
الثاني: تطور القصة العربية ومراحلها في الأدب العربي الحديث،
والثالث: أنواع القصة العربية وأبرز اتجاهاتها في الأدب العربي الحديث، وهي الاتجاه التاريخي، والاتجاه العاطفي، والاتجاه الاجتماعي.
يقول في بيان الاتجاه العاطفي:
“الحب والعاطفة من أهم الموضوعات التي ما زالت مسيطرة على القصة منذ أول عهدها، فالعلاقة بين الرجل والمرأة، وأطوار هذه العلاقة، قد اختلفت نظرة الكتاب إليها في قصصهم، وتأثرت نظراتهم بالوضع الاجتماعي للمرأة في الإسلام، وعند العرب في عهدهم القديم، وفي المجتمعات العربية المعاصرة، سواء في الريف أو في المدينة، فهذه العلاقة إما أن تكون على أساس تقاليد المجتمع والشرع والدين، أو خارجة عنها، وهي تؤدي إلى الزواج، أو الحب، أو الحرمان، أو البغاء وسقوط المرأة في الرذيلة”. ص 619.
استفاد المؤلف من المصادر القديمة والحديثة، والمصادر العربية والغربية، وعرض دراسته عرضا شيقا منسقا يشهد له بالبراعة، ويمتع القارئ بلذة الاستطلاع، فإذا نظر العربي في هذه الفصول أفاد من أساليب المتمكنين من ناصية البيان والفصاحة، وأفاد من المعاني التي توخوها من كتابتهم لهذه القصص التاريخية أو الاجتماعية أو العاطفية، وإن مثل هذا العرض ليضيف إلى ثروة في الفكر وثروة في اللغة.
لقد سعدت جدا بأن ينهض كاتب هندي المولد والنشأة والتعليم، ويتطرق إلى موضوع خطير الشأن من موضوعات اللغة العربية الأدبية ويستوعبه هذا الاستيعاب، فرحبت بهذا العمل الذي هو بمثابة دليل على الأدب القصصي عبر عصوره المختلفة، يعين الباحثين على تطوير هذا الموضوع واستقصائه نقدا وتحليلا، ولا أعدو طوري إذا قلت: إن دراسته هذه تستحق من مؤرخي الأدب العربي تأملا وتبصيرا، وتقديرا وتقييما.