د. محمد أكرم الندوي يكتب: العلماء أتباع للجهلاء
العلماء أتباع للجهلاء، يقتفون آثارهم، ويرددون أقوالهم، زعموا أن الحياة نفس وحركة، وعدٌّ للخطى، وشراب وطعام، واضطجاع ومنام، وإصغاء للآذان، وتعبير عما في الضمير وكلام.
وزعموا أن الحياة تقلُّب في البلاد، ووطء للنجاد والوهاد، وقطع للصحارى والفيافي، وخوض في البحار والأنهار.
وزعموا أن الحياة افتتاح للأقاليم، وتوسع في الأراضي، وتغلب على الأعداء، وقتل وفتك، وتخريب وتدمير، وسلب الناس ممتلكاتهم، وانتهاك لحرماتهم.
زعموا وبئس ما زعموا، كذبوا والله فيما زعموا.
مررت بشيخ كبير السن واقع جريحا في بعض أوحال حي الشجاعية بغزة مقطعة أجساده ومخرقة ثيابه يلفظ نفسه الأخير، فدنوت منه، وأعربت عن حزني على قضاء حياته مخذولا مهجورا، فقال: لا تحزن، إننا نحن الفلسطينيين الملطخين بدماء الحب والشوق نفسر للعالم معنى الحياة ونرقم قانون حماية المسجد الذي بارك الله حوله، إننا لننكر عقولا لا ترى الرحمن استوى على العرش، ونكره قلوبا غير معمورة بذكر مولاها، ونواصي لا تسجد لرب العالمين، وألسنة لا تقول لبارئها: هل لدينا شيء نفديه لك، إلا هذه الحياة المستعارة فتقبَّلها منا.
وأفاض قائلا: إن الدول والممالك مفاتن للغافلين ومصائد للطائشين، وإن الحدائق والجنان خراب يباب إذا خلت من اسم بارئها، لا بهاء في أزهارها وورودها، ولا رواء في مناظرها ومشاهدها، يزهد فيها المدركون للحقائق راغبين عنها ومولين أدبارا.
ولم يلبث أن فارقت روحه جسده وهو مبتسم يسبح ويحمد ويردد: «إلى الرفيق الأعلى»، فتذكرت قول ابن يمين:
«لا تنظر إلى قلب ابن يمين إذا كان مصبوغا بالدماء، ولكن انظر كيف انتقل من هذه الدار الفانية، لقي حتفه والمصحف بيده، وقدماه على الصراط، وعيناه ناظرتان إلى المولى الحبيب، ركب حصان الأجل مبتسما مسرورا».
ودفنت ذلك القتيل الفلسطيني في موضعه مكفنا بثيابه الفائحة بريح المسك، وقلت: إن ضريح الشهيد في سبيل الله لمستغن عن العطور الفيحاء، والأزهار والرياحين أن تنثر عليه، وإن الواصل بربه لا يهمه أن يعلم موضع قبره، فالمخمولون هم المشهورون، والمنسيون هم المذكورون.