سألني بعض الباحثين المعنيين بالدراسات القرآنية عن المراد بالمقسم به في مستهل سورة الفجر، إذ راجع كتب التفسير وأقوال العلماء، فلم يزدد إلا غمة والتباسا، واضطرابا وإشكالا، وقد اختلط الأمر عليه اختلاطا لا مزيد عليه.
فأجبت قائلا: قد راجعتَ – كما ذكرتَ – أقوال العلماء وآراء المفسرين، فلا أعيدها، وإنما أعرض عليك ما ترجح لدي في تفسير الآيات المسؤول عنها، وقد قسمتها لزيادة البيان إلى أربعة مقاطع:
الأول: وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ 1-4.
الثاني: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ 5.
الثالث: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ 6-13.
الرابع: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ 14.
فالمقطع الأول قسم ومقسم به، والأخير أي قوله “إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ” مقسم عليه، والثاني تذكير بخطورة شأن هذا القسم، والثالث بيان للمقطع الثاني.
القسم في القرآن الكريم هو في معنى الاستشهاد كما شددت عليه مرارا، واتبعت فيه رأي الإمام الجليل حميد الدين الفراهي رحمه الله، والذي شرحه في كتابه البديع (إمعان في أقسام القرآن)، أي إن القرآن استشهد بالفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر على كون ربنا تبارك وتعالى بالمرصاد، والمرصاد: المكان الذي يترتب فيه الرصد، أي إنه يبتلي العباد ولا يفوتونه.
فما الصلة بين القسم والمقسم عليه؟ إنها صلة لا تنكشف إلا لمن تدبر الآيات تدبرا، وحث على هذا التدبر بقوله “هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ”، وكلما كان الكلام مستدعيا للتفكير والنظر أتبعه بما يسترعي الانتباه إليه، فمثلا قال في سورة الواقعة في سياق القسم: “وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ” 76، يقول العلامة الفراهي في تفسير هذا الموضع: “فهذه الجملة الأخيرة مثل ما تجد كثيرا في القرآن بعد ذكر الدلائل، كما جاء في سورة النحل: “إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون” 12، أو كما جاء في سورة طه: “إن في ذلك لآيات لأولي النهى” 54- 128، أو كما جاء في سورة آل عمران: “إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار” 13، فهكذا ههنا بعد ذكر الأقسام نبه على كونها دلائل لذي عقل وبصيرة” (تعليقات 2/452-453).
دعا إلى تدبر الأقسام هنا، ثم جاء ببيان يعين العباد على فهمها، وهو ما قال في المقطع الثالث: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ”.
ذكر الله تعالى في المقطع الثالث أمما طغت في البلاد، فأكثرت فيها الفساد، فعذبها الله أشد العذاب، فأشار بهذا البيان إلى أن المراد بالمقسم عليه أيام الله التي صب فيها على الطغاة سوط العذاب، وهو تاريخ عرفته العرب فكفتها الإشارة.
وإليك الآن تفصيل هذه الأقسام:
“والفجر”: فالفجر هو عذاب قوم لوط عليه السلام، جاء في موضع آخر: “قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب” سورة هود 81.
“وليال عشر”: هي هلاك عاد في سبع ليال، وتربص ثمود للعذاب ثلاث ليال، فهي عشر ليال، جاء بيان ذلك في موضع آخر: “وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية” سورة الحاقة 6-8، وقال في ثمود: “فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب، فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها، ألا إن ثمود كفروا ربهم، ألا بعدا لثمود” سورة هود 65-68.
“والشفع والوتر” والمراد أيام العذاب التي كانت شفعا أو وترا، وجمع في قصة عاد بين الأمرين: سبع ليال وثمانية أيام، وأرسل الله موسى إلى فرعون بتسع آيات، ثم أغرقه وهذه الآية العاشرة.
“والليل إذا يسر”: وهو الليل الذي تلاه عذاب فرعون، قال في موضع آخر: “وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون… وأنجينا موسى ومن معه أجمعين، ثم أغرقنا الآخرين” سورة الشعراء 52-65، وفي قوله “يسر: إشارة إلى عدم استقرار الشدائد على المؤمنين، فسرى موسى عليه السلام في الليل، ومضى الليل، وشهدت بنو إسرائيل غرق فرعون في اليوم التالي.
وهذه الأيام كلها أعيدت في المقطع الثالث، إلا عذاب قوم لوط، فإنه لم يعده هنا، ولعل السبب في ذلك أن السياق هو بيان قوة تلك الأمم الطاغية وشدة بطشها، ولم تعرف هذه القوة في قوم لوط، والله أعلم بالصواب.