استكبر قوم نوح ساخرين منه ومستهزئين به، شيَّدوا المباني، وصادقوا النجاد والوهاد، ووالوا الصخور والجبال الشامخات، وتوهموا أنهم يكتبون أقدارهم بأيديهم، ما أشقى الكفرة العتاة إذ جهلوا أن الملائكة لا يقرأون إلا ما كتبت يمينك، نظروا في كتابك وساقوا عذابك إليهم وفار التنور وأخذهم الطوفان وهم ظالمون، فأمسوا بين أطباق الثرى أهل ديار خاويات خاليات.
وخلفتهم عاد وازدادوا في الخلق بسطة، يبنون بكل ريع آية يعبثون، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون، وإذا بطشوا بطشوا جبارين، وفرحوا بأنهم يسطرون سعادتهم، جحدوا بآياتك وعصوا رسلك واتبعوا أمر كل جبار عنيد، فلم يقرأ الملائكة ما سطروه، وإنما قرأوا ما كتبت يمينك، فجاؤوا عليهم بريح صرصر عاتية في أيام نحسات، سخرتَها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، فوقع القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، ولم تبق لهم من باقية، وأخبث بأرواح العظام الباليات.
وخلفتهم ثمود، استعمروا الأرض، يتخذون من سهولها قصورا وينحتون الجبال بيوتا، وظنوا أنهم يرقمون خلودهم، فكفروا بك طغاة بغاة، ولم تقرأ الملائكة ما رقموه، وإنما قرأوا ما كتبت يمينك، فقيل لثمود: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب، وأخذتهم الصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها، وصم الجبال الراسيات والصخور العاتيات عليهم ضاحكات غير باكيات.
واقترف قوم لوط الفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، يأتون الرجال شهوة من دون النساء وهم مسرفون، وخالوا أنهم يسجلون عيشة منغمسة في مستنقع القاذورات، فلم يقرأ الملائكة ما سجلوه، وإنما قرأوا ما كتبت يمينك، فجعلوا بأمرك عاليها سافلها وأمطروا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة، ولم يبق لهم عين ولا أثر، يا لها من نكبات تلتها نكبات.
وازداد أصحاب مدين غنى وثروة، يبخسون الناس أشياءهم، ويطففون في الكيل والميزان، ويفسدون في الأرض بعد إصلاحها، ويقعدون بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن به، ويبغونها عوجا، وحسبوا أنهم ثبَّتوا على جبين التاريخ مستقبلهم اللامع، فلم تقرأ الملائكة ما حسبوه، وإنما قرأوا ما كتبت يمينك، وجاؤوا إليهم برجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، ولم تر لهم عوائد، ولا ذرفت لهم عيون باكيات.
واستكبر فرعون وقومه يسومون المستضعفين سوء العذاب، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، وادعوا أنهم قد خلدوا آثارهم في أرض مصر، فلم تقرأ الملائكة ما ادعوه، وإنما قرأوا ما كتبت يمينك، فنفذوا فيهم أمرك، وأدرك آل فرعون الغرق، ودُمِّر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون.
وسألتُ الملائكة عن معد ورهطه، وعن سبأ ما كان يسبي ويسبأ، وملوك ذوي عساكر ومنابر، وأقيال وتبابعة ذوي قصور ودساكر، فقالوا: إننا لم نقرأ ما نمقوه أو طرزوه، وإنما قرأنا ما كتبت يمين الجبار، فلم نرحم مليكا أو ثريا أو عتيا، وأتينا على المستكبرين جميعا، وما نوب الأيام إلا كتائب، تبث سرايا وتعبأ أخرى.
يا رب العالمين! آل الأمر إلى أن قوما من الصهاينة الطغاة ينسفون بيوت عبادك، ويغتالون الرجال والنساء، ويبيدون الشيوخ والولدان، ويهلكون الحرث والنسل، ويتباهون بأنهم يملكون القدر والقضاء، ويتحكمون في الرقاب، ويعينهم على ذلك قوم آخرون، وبنو الخسيسة أوباش أخساء، يجهرون أن الأرض ستخلو لهم، والشعوب كلها لهم شركاء، أو عن فعالهم خرساء، وقد نسوا أن الملائكة لا يقرأون ما يكتبون، فلا تغرنهم شم من جبالهم، أو عزة لهم عالية، أو قوة لهم عاتية.
ربنا، رب المستضعفين، ائذن لملائكتك أن يقرأوا ما كتبت يمينك، وصدِّق قولَك: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين.