حين يرفع الإنسان يديه إلى السماء، فهو لا يفعل فعلًا عابرًا، بل يُمارس أخصّ معاني العبودية، ويُعلن الافتقار والتذلّل إلى مولاه، ورجاءه فيمن بيده ملكوت كل شيء، غير أن هذا المقام الجليل، أي مقام الدعاء، قد شابه في زماننا كثير من الجهل وسوء الفهم، حتى صار بعض الناس يدعون الله وكأنهم لا يعرفونه، أو لا يقدّرون له قدره.
ترى أحدهم يُفيض في كشف مصيبته، ويُطيل في شرح بلائه، ويُسهب في تعداد مِحنه، وكأنّه يُخاطب غائبًا عن حاله، أو يُنبّه ربّه إلى ما نزل به، بل إنّ بعضهم يقترح على الله الوسائل التي يراها أنسب لرفع الكرب، ويُزيّن دعاءه ببراهين يُثبت بها – فيما يظن – أحقّيته بالإجابة، وكأنّه يُرافع أمام قاضٍ يحتاج إلى إقناع!
وهذا من أعظم ما يُخالف روح الدعاء، بل يُنافي أدب العبودية التي ينبغي أن يكون المرء فيها متذلّلًا، خاشعًا، مقرًّا بعجزه، ساكنًا تحت مشيئة الله وحكمته.
وقد شوّه هذا الفهم المغلوط سلوك كثير من الأئمة والخطباء، حتى أصبح القنوت عند بعضهم يمتد إلى نصف ساعة أو أكثر، يمتلئ بالألفاظ المتكلّفة، والتفصيلات المبالغ فيها، مستهترين استهتارا، كأنّهم يعتقدون أن طول الدعاء أبلغ في القبول، وأن التنطع في الكلمات أرجى في الإجابة!
وقد شهدتُ في رحلاتي مع جماعة الدعوة والتبليغ كثيرًا من المحطات الإيمانية التي ملأت القلب نورًا، وعلّمتني الإخلاص والتجرد، لكن ما آلمني بحقّ هو ما وقفت عليه من الإفراط في الدعاء، وغفلةٍ عن التوقير الذي يستحقّه جناب الربّ، جلّ في علاه.
إنّ تأمّل دعوات الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، يُعلّمنا حقيقة الدعاء وروحه، فهم في أدعيتهم لا يُكثرون من الشرح، ولا يفيضون في البيان، بل يختصرون، ويركّزون، ويُظهرون الافتقار والخشوع بأبلغ عبارة وأوجز لفظ.
تأمّلوا مثلًا دعوة نبيّ الله أيوب عليه السلام، وقد ابتُلي بأنواع البلايا، وفقد ماله وولده، وأصاب جسده الضرّ، وطال عليه البلاء، ومع ذلك، حين ناجى ربّه، لم يشكُ، ولم يُفصّل، بل قال: مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
عبارة قصيرة، لكنها عميقة، جمعت كل معاني العجز، والرجاء، واليقين، والثقة بالله وتعظيمه وتوقيره، فكانت استجابة الله له: “فَاسْتَجَبْنَا لَهُ”.
لم يكن في دعاء أيوب عليه السلام شكوى تُوحي بالضجر، ولا اقتراح يُوحي بالاعتراض، بل كان توكّلًا صادقًا، وتضرّعًا خاشعًا، وهو ما نحتاج أن نُعيد فهمه في زماننا.
إنّ الله لا يستجيب لأحد بطول الكلام، ولا بفخامة الألفاظ، وإنما يجيب دعوة الداعين بصدق النية، وخشوع القلب، وتوقير العبد لربّه.
فلنُعلّم أنفسنا ومن حولنا أن الدعاء مقام وقار، لا مقام استعراض، وأنه باب رحمة، لا منبر خطابة، ولنعُد إلى ما علّمتنا إياه أدعية الأنبياء، لنكون أرجى للقبول، وأقرب إلى الفضل الإلهي الذي لا يُحدّ.