د. محمد أكرم الندوي يكتب: رسالة من جبل أُحد

يا رمز القوة والشموخ! لقد شهدت سهولك وأوديتك على بسالة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعتهم النادرة رضي الله عنهم، لقد كنت ساحة للحرب والوغى، وميدانًا للحق والتضحية، لا تزال أصداء التاريخ تُسمع من جوانبك وأكنافك، لقد ارتوت أرضك بدماء الشهداء الطاهرة، واتصل بك نسب الشهداء كلهم المنتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، فما من أحد قتل في سبيل الله إلا وهو ابنك البار التقي النقي.
يا مغرس الشهداء! لقد ولدت بنين وبنات قدَّست دماؤهم الأرضين على مر الدهور والأعصار، ولقد كثرت أولادك في فلسطين أيام الغزو الصليبي، وفي بلاد ما وراء النهرين، وخراسان، والعراق أيام الاجتياح المغولي، وفي الأندلس، وفي الهند حين قسمت أراضيها، وفي بورما، والبوسنة، وسورية في زمننا الراهن.
يا موطن المقتولين في سبيل الله! لقد تضاعف المنتمون إليك في فلسطين منذ احتلال بني صهيون لها، وقد كان لغزة منها أكبر نصيب، لا يزال شبابها وشيوخها، ورجالها ونساؤها، وكبارها وأطفالها يقدمون أرواجهم في سبيل الله وفاء لعهدك.
يا مستقر الأحياء المرزوقين عند ربهم! ألك رسالة إلى ذريتك المتطلخة بالدماء في غزة؟
فنادى الجبل الذي اشتق من التوحيد اسمه، وارتفع بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “هذا جبل يحبنا ونحبه” رسمه:
لقد بلغتني قصص بطولات أبنائي وبناتي وأحفادي وحفيداتي في غزة، إنهم في ساحة الوغى غير مذممين،
ولم يسمع منهم أنين على فداء مهجهم، يقطعون إربا إربا مشوهة وجوههم وممثلة أيديهم وأرجلهم، ولم يقولوا قط:
يا ليتنا لم نفعل، فنوائب الدهر عندهم أهون وأذل، وملمات الزمان لديهم أدنى وأقل، ودينهم الذي ورثوه من الصحابة المدفونين بجنبي لم يرضوا أن يكلم أو يناله جرح، تناديهم المنايا فيجيبونها مستيقنين أن الحتوف منهل، ولا بد لهم أن يسقوا بذاك المنهل.
أبلغ الذائدين عن حرمة الإسلام وحماة أعراض المسلمين، القائلين:
إن موت العز خير من الحياة، أبلغهم أن الثاوين في سفحي مسرورون بهم، ومعتزون بنسبة الغزاوين إليهم،
إنهم مثلهم، معروفون في السموات، غير مكترثين ببناء قبور لهم وأضرحة، وغير راغبين في نائحات يندبن مآثرهم،
وما أزكى أجسادهم تفوح طيبا، زاهدة في نثر الورود عليها والأزهار، فلتقبِّل الشعوب والأمم تلك الأجداث، ولتلثم الأفواه أراضي سكنت فيها تلك الأرواح والأجساد.
وأبلغ ورثتهم أن هذه الدماء لن تذهب هدرا، كما أن المدفونين في سفحي لم تذهب دماؤهم هدرا،
وسيتولد من دمائهم وأشلائهم عباد لرب العالمين رُكَّعا له ساجدين، وعلى أعدائه أشداء جبارين، صادقين إذا أوقدت للحروب نيران.
أبلغ الشهداء أن قلبي معهم، غير مختار سواهم خليلا، ولا راضٍ بمن دونهم في الهوى بديلا،
وقسمًا بالذي أمات وأحيا، وتولى الأرواح والأجسام إنهم لعزي لا عز في الناس مثله،
وإن سنتهم لن تتهدم وحرمتهم لن تنسى، وإني لأحن إلى منازلهم كلما غدا طائر على غصن شجرة يترنم، صلوات الله على أبنائي الكرام البررة.