مقالات

د. محمد أكرم الندوي يكتب: فطرة الله التي فطر الناس عليها

ولدت لابنتي فاطمة وزوجها الدكتور عمران البارحة (ليلة السبت سابع شوال سنة 1446ه) ابنة في مستشفى جون ريد كلف بأوكسفورد، وأنا في مدينة ريدنك برفقة ابنتي عائشة أدرس تفسير القرآن الكريم لجمع من الرجال والنساء، وعند عودتي من الدرس، كانت البشرَى في انتظاري، فحمدت الله وشكرته على نعمه التي لا تحصى ولا تعد.

ثم شغلتني حاجات وارتباطات، إذ إني سأشد رحلي إلى الهند صباح الأحد، ثامن شوال إن شاء الله، ولم أتمكن من التوجه إلى المستشفي إلا في الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر، حيث وجدت الوليدة وأمها في صحة جيدة، وتحدثت مع صهري الدكتور عمران عن أشياء، وقد اختارا لابنتهما اسم “عائشة”، فقلت لهما: أخشى أن تسبب هذه التسمية نوعًا من اللبس في بيتنا، حيث إن خالتها أيضًا تحمل هذا الاسم، ويجدر بالذكر أن التقليد في الهند يقضي بعدم تكرار نفس الاسم في العائلة عبر ثلاثة أجيال متتالية لتجنب الاشتباه في المخاطبة.

وأخبرتني فاطمة أن عمران قد نادى بالأذان في أذن عائشة اليمنى، ونادى بالإقامة الصلاة في أذنها اليسرى، كما جرت العادة لدينا، ومع أن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند يحتج به، فقد استحسن العلماء هذا الفعل، إذ أحبوا أن يسمع المولود في أول ما يسمعه كلمات التوحيد، وهي الدعوة التامة، فكل مولود يولد على الفطرة، واسم الله وتوحيده هما أول متطلبات هذه الفطرة.

ثم طلبت مني فاطمة أن أحنك الوليدة، وقد أخرج البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها ولدت عبد الله بن الزبير، فأتت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحملته في حجره وحنكه بتمرة، ثم دعا له بالبركة، كما أخرج البخاري أيضًا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “ولد لي غلام، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم، فحنكه بتمرة ودعا له بالبركة”، وبناءً على هذه السنة النبوية الشريفة، قمت بتحنيك الوليدة، وقد بدا عليها الفرح عند مص القطعة الممضوغة من التمر، وكأنها تستزيد منها.

لقد أصاب الإمام الفراهي رحمه الله في تأكيده أن الفطرة ليست مقتضية فقط، بل هي أيضًا تَسعد وتتمتع إذا وجدت ما يتوافق معها، وتتعذب إذا حرمت ما تحتاج إليه، فإدراك الحسن والقبح هو أمر فطري، يدعمه العقل والوحي، ويُفصل بشكل دقيق من خلالهما، ولقد جانب الصواب من جعل الحسن والقبح مجرد عقليين أو مجرد شرعيين، والحق الذي لا ريب فيه عند العارفين أن الحسن والقبح فطريان أصلا، وتفاصيلها معلومة بالوحي، ومؤيدة بالعقل.

إن الإنابة إلى الله والافتقار إليه، والسرور بذكره، هي من جذر الفطرة، التي ينبثق منها الفرح العميق والامتلاء الروحي، لأنها تحمل في طياتها الحقيقة السرمدية، وقد استشعر هذه الفطرة أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وعزز أمرها بالحجة العقلية، التي تفوق حجج البشر كافة، إن الفطرة تدفع الإنسان في شوق عميق ومتدفق نحو إلهه الحق، تنبض بها روحه وتفيض.

وما أحسن ما قاله بعض المفسرين: “إنها الفطرة تنطق على لسان إبراهيم، إنه لم يهتد بعد بوعيه وإدراكه إلى إلهه، ولكن فطرته السليمة تنكر ابتداء أن تكون هذه الأصنام التي يعبدها قومه آلهة – وقوم إبراهيم من الكلدانيين بالعراق كانوا يعبدون الأصنام كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم، فالإله الذي يعبد، والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء، والذي خلق الناس والأحياء.. هذا الإله في فطرة إبراهيم لا يمكن أن يكون صنما من حجر، أو وثنا من خشب.. وإذا لم تكن هذه الاصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب – وهذا ظاهر من حالها للعيان – فما هي بالتي تستحق أن تعبد؛ وما هي بالتي تتخذ آلهة حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد”.

قضينا بعض الوقت في المستشفي، حيث كان الجو مفعمًا بالفرح والسرور مع قدوم هذه الطفلة الجديدة، كان الجميع في حالة من السعادة البالغة، والأبوان فاطمة وعمران يحيطان بالوليدة بأمواج من الحب والدعاء، تواترت الكلمات الطيبة والتهاني، وتبادلنا الدعوات لها بالبركة والنجاح في حياتها.

دعوْنا للوليدة، وتضرعنا إلى الله أن يبارك فيها، وأن يجعلها من الصالحات القانتات، وأن يملأ حياتها بالنور والهداية، اللهم اجعلها قرة عين لأبويها، وارزقهما برها وطاعتها، نأمل أن تكون هذه الطفلة المباركة مصدر سعادة وهناء لأسرتها، وأن تشرق في حياتها كأشعة الشمس التي تضيء الظلام.

د. محمد أكرم الندوي

عالم ومحدث، من أهل جونفور الواقعة ضمن ولاية أتر برديش الهندية. وباحث في مركز أوكسفورد للدراسات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى