قال الله تعالى: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين، قالوا بل لم تكونوا مؤمنين، وما كان لنا عليكم من سلطان، بل كنتم قوما طاغين} (سورة الصافات الآيات 27-30).
هذا ذكر اختصام في نار جهنم بين المتبوعين وأتباعهم، حتى يقول الضعفاء لسادتهم وكبرائهم: “إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين”، فما معنى قولهم هذا؟
اختلف الناس في تأويله على أقوال، منها: “قالت الإنس للجن: إنكم أيها الجن كنتم تأتوننا من قِبَل الدين والحق فتخدعوننا بأقوى الوجوه، واليمين: القوة والقدرة في كلام العرب”، هذا قول جماعة من أهل التأويل، نقله الطبري في تفسيره.
وقال الزمخشري: “المعنى أنكم كنتم تأتوننا عن القوّة والقهر، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه، وهذا من خطاب الأتباع لرؤسائهم، والغواة لشياطينهم”.
وقد لخص الفخر الرازي الأقوال كلها في تفسير الآية إذ قال: وفي تفسير اليمين وجوه:
الأول: أن لفظ اليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات، وبيان كيفية هذه الاستعارة، أن الجانب الأيمن أفضل من الجانب الأيسر لوجوه أحدها: اتفاق الكل على أن أشرف الجانبين هو اليمين، والثاني: لا يباشرون الأعمال الشريفة إلا باليمين مثل مصافحة الأخيار والأكل والشرب وما على العكس منه يباشرونه باليد اليسرى، الثالث: أنهم كانوا يتفاءلون وكانوا يتيمنون بالجانب الأيمن ويسمونه بالبارح، الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء، الخامس: أن الشريعة حكمت بأن الجانب الأيمن لكاتب الحسنات والأيسر لكاتب السيئات، السادس: أن الله تعالى وعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه، والمسيء أن يؤتى كتابه بيساره، فثبت أن الجانب الأيسر، وإذا كان كذلك لا جرم، استعير لفظ اليمين للخيرات والحسنات والطاعات، فقوله: “إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين” يعني أنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون لنا أن مقصودكم من الدعوة إلى تلك الأديان نصرة الحق وتقوية الصدق.
والوجه الثاني: في التأويل أنه يقال فلان يمين فلان، إذا كان عنده بالمنزلة الحسنة، فقال هؤلاء الكفار لأئمتهم الذين أضلوهم وزينوا لهم الكفر: إنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون لنا، أننا عندكم بمنزلة اليمين، أي بالمنزلة الحسنة، فوثقنا بكم وقبلنا عنكم.
الوجه الثالث: أن أئمة الكفار كانوا قد حلفوا لهؤلاء المستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق، فوثقوا بإيمانهم وتمسكوا بعهودهم التي عهدوها لهم، فمعنى قوله: “إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين” أي من ناحية المواثيق والأيمان التي قدمتموها لنا.
الوجه الرابع: أن لفظ اليمين مستعار من القوة والقهر، لأن اليمين موصوفة بالقهر وبها يقع البطش، والمعنى أنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتعيرونا عليه. انتهى كلام الرازي.
قلت: إن الاهتداء إلى التأويل الصحيح يحتاج إلى استحضار أمرين:
الأول: أن القرآن الكريم على أسلوب العرب الأولين، وقد كثر الحذف في كلامهم لاعتمادهم عقول السامعين وأفكارهم، وقد شرحت في غير موضع أن لغة العرب لغة العقلاء النابهين، يستقبحون الإطالة ويستهجنون الإسهاب كلما وجدوا إلى الاستغناء عنه سبيلا، وأسلوب الحذف مبيَّن في كتب الباقلاني والجرجاني والزمخشري وغيرهم، وقد أجاد العلامة حميد الدين الفراهي الكشف عن وجوهه في كتابه الفريد (أساليب القرآن)، فلينعم طلبة القرآن الكريم النظر فيه.
والثاني: أن أهل النار قوم خصمون، يخوضون في جدال عنيف ومراء شديد، وأصحاب المجادلات ذوو تكرار ورد وإنكار، وأولو تنازع وتدافع، وتذامّ وتلاوم، فالمعنى هنا أن الأتباع ما إن انتهوا من قولهم: “إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين”، لم يدعهم السادة يتمون كلامهم، وأقحموا قولهم فيه: “بل لم تكونوا مؤمنين”.
فما هي تتمة كلامهم؟ الجواب أننا نظرنا في مثل هذا الكلام في كتاب الله فوجدنا فيه قول الشيطان الرجيم: “قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين” (سورة الأعراف 16-17).
وهذا النظر هدانا إلى المعنى هنا، وهو أن الضعفاء أرادوا أن يقولوا: إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين وعن الشمال ومن بين أيدينا ومن خلفنا لتضلونا وتمنعونا من سماع القرآن والجلوس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طرق مبدأ هذا الكلام آذان السادة استبشعوه، وكرهوا العتاب والتأنيب، وقاطعوهم قائلين: “بل لم تكونوا مؤمنين”.