د. محمد أكرم الندوي يكتب: معنى «المدينة»
سبق أن كتبت مقالا عن «معنى مكة»، وكان المفترض أن أتبعه مقالا آخر عن «معنى المدينة»، ولكن تأخر الأمر حتى نسيت الموضوع، ثم ذكرَّني بي مذكر، فعدت إليه، وقلت:
إن مكة أصل هذا الدين، والمدينة فرعه، إن مكة عبارة عن الإيمان، والمدينة عبارة عن الإسلام، ومكة ترجمة لرسالة إبراهيم الخليل عليه السلام، والمدينة ترجمة لرسالة موسى عليه السلام، والرسالتان تلخصان النبوات كلها تلخيصا، وإن نبينا صلى الله عليه وسلم جامع للرسالتين، ووارث للنبوات كلها، وقد ضمن الله إنزال البركات والخيرات الماضية على أهل الأرض من طريق هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، فمن آمن به وأطاعه فقد فاز بالحسنيات والدرجات العلى.
مكة أصل هذا الدين لأنه انبثق منها وبدئ الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء بمكة، وفيها نزل القرآن الذي تبتني عليه قواعد الدين، فرسخت مكة جذور الدين في النفوس إجمالا، وبسطت المدينة تفصيله، وتفسير هذا القول يدل عليه معاني السور المكية ومعاني السور المدنية.
ومكة عبارة عن الإيمان، والإيمان محله العقل، والمدينة عبارة عن الإسلام، والإسلام محله القلب، والأعمال كلها من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها إظهار لإسلام القلب، وبهما تزكو النفوس وتطهر الأرواح، ودين الله هو الجامع بين الإيمان والإسلام، وهو جهاد العقل والقلب والبدن، وأبلغ بنعمة تعقب من ضنك ومعاناة، وصبر وتحمل للشدائد، وأكرم بمن لا يعامل الأنام إلا بما حسن، وجانب كل ما قبح.
ومكة عبارة عن تربية الأفراد، ففيها قام النبي صلى الله عليه وسلم بتربية أبي بكر وعمر وخديجة وفاطمة وسائر المهاجرين، والمدينة عبارة عن تكوين المجتمع، وبالتالي الغلبة والتوسع، وهي مقر أنصار دين الله، وبها اجتمع بهم المهاجرون، ومنها كانت الغزوات والفتوح والانتصارات، وهي عاصمة الخلفاء الراشدين المهديين، والملك ملك الله الذي يقوم على طاعته، والتاج تقوى الله لا ما رصعه المستكبرون زينة لأنفسهم، وما أسرع ما تزول.
ومكة عبارة عن الحنيفية، وهي أن ينصرف العبد عن كل شيء إلى الله تعالى آخذا في سبيل العقل مهتديا بهديه، لا يرجو غير المهيمن أحدا، ولا يخاف إلا الإله الواحد القهار، وهو قول إبراهيم عليه السلام: «لا أحب الآفلين»، ثم قوله «إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين»، والمدينة موضع نزول الشرائع التي أوتيها موسى عليه السلام، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الرسالتين، هو قوله تعالى: «إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى»، وبالتالي جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين النبوات كلها، وهو قوله تعالى: «وإنه لفي زبر الأولين»، وقوله تعالى: «أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده».
فإن قيل: كيف تكون مكة أصل هذا الدين وقد جاء في الحديث الشريف: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها»، ففحوى الحديث أن المدينة هي الأصل، ومن ثمة يرجع الإيمان إليها.
قلت: إن هذا لإشكال قوي، والجواب عنه أن الله تعالى قال: «وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون» سورة الأنفال الآية 33، ذكر فيه سببين لدفع العذاب عن أهل مكة، وهما وجود النبي صلى الله عليه وسلم بها، واستغفارهم من ذنوبهم، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يبق لأهل مكة إلا سبب واحد وهو الاستغفار، وصارت المدينة مستقر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، فمكة إذا لم يبق بها مستغفر كانت عرضة للعذاب، والمدينة لن تكون عرضة للعذاب لوجود النبي صلى الله عليه وسلم بها، ولا فرق بين وجوده بها حيا وميتا، ومن ثم استحقت المدينة أن تكون موئلا للمؤمنين.
وإن قيل: هذا الجواب يؤدي إلى تفضيل المدينة على مكة، وقد فضلت في مقالك «معنى مكة» مكة على المدينة، قلت: هذا تفضيل جزئي، فمكة أفضل البلاد إطلاقا، وهي أم القرى، وقد تفضل عليها المدينة من بعض النواحي، وأهم هذه النواحي وجود النبي صلى الله عليه وسلم بها، والبلدان طيبان مباركان لأهل الإيمان، والنفوس الخبيثة النكدة سواء عليها أمكة زارت للمناسك أم انضوت إلى طيبة مع أنهما تنفيان الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد، وأغنى الأنام تقي نقي صافي الروح والجسد يلتقي بإبراهيم ومحمد عليهما السلام في الإيمان والعمل، لا في الدم والنسب.