د. محمد الأسطل يكتب: المغمور المشهور
من أيام ويقفز إلى ذهني أخي الشيخ نور بركة عليه رحمة الله.
وكنت قد كتبت منشورًا عقب استشهاده إلا أنه حُذِف من إدارة الفيس من زمنٍ بعيد.
ومن خصاله التي بدأت تضغط على ذهني المرة تلو المرة حاله مع الشهرة، وكيف أنه يُحرمُ منها من يطلبها وكيف يعطاها من يفر منها!
إن الشيخ نورًا كان بعيدًا عن الأعين، لا يكاد يعرفه إلا من عامله، وأحسب أن قطاعًا كبيرًا من شباب مدينة خان يونس لا يعرفونه إلا أهل المنطقة الشرقية التي يسكنها.
في أحد التصعيدات العسكرية التقيته في مكتبةٍ لبيع الكتب، فقلت له: كيف تتحرك في هذا الوقت؟! قال: العيون الآن بعيدةٌ مشغولة، فاستثمرت الفرصة لأطَّلعَ على ما وصل من جديد الكتب.
والتقيته مرةً بالجامعة الإسلامية فجلسنا معًا وعلى إثر مكالمةٍ أخبرني يومها أنه بصدد انتهائه من ختمة السند المتصل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وحين علمت أنه يأتي من مدينة خان يونس إلى مدينة غزة لتلقي السند سألته متعجبًا: كيف فعلت هذا وموقعك العسكري يعيق؛ بل ويجعل إخوانك القادة يفتقدونك؟
قال: أفعل ذلك في صمتٍ، ولا يكاد يُشعر بي.
وحدثني أحد المقربين من الشيخ أنه ناقش رسالة الماجستير -وكانت في الفقه المقارن بعنوان: «الإهمال في العمل الجهادي»- في خفاءٍ تام، حتى إنَّه لم يحضرها أحدٌ من أقاربه ومعارفه إلا أخت الشيخ، وهي ضمن كادر التدريس بالجامعة الإسلامية.
قال لي الأخ وفقه الله: وقد توارد إلى سمع الإخوة الذين يعمل معهم في العمل الجهادي خبر المناقشة من خلال أخٍ التقط المعلومة من المشرف على الرسالة شخصيًّا أو من أحد المناقشين لها.
وحين أرادوا زيارته حصل ترددٌ هل يسعد بذلك ويرضى أو لا؛ وذلك لما ظهر منه من حرصٍ تامٍّ على إخفاء الأمر، فاستقر الرأي أن نهاتفه ونطلب الزيارة فكلمناه واعتذر بأنه خارج البيت ولم تحصل الزيارة.
ومما سمعته من هذا الأخ أيضًا أن طابع الخفاء كان سمتًا عامًّا للشيخ نور رحمه الله، حتى فيما يعرض له من أمر الدنيا؛ فلو مرض أو خضع لعمليةٍ جراحيةٍ فمن الصعب أن يعلم به أحد، ولو كان الأمر يتعلق بفقرٍ لا يجد معه النفقة التي يريد فإنه يكتم حاجته ولو تعنى ما تعنى.
علمًا بأن الشيخ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان متقللًا من الدنيا، وأخباره في ذلك كثيرة ليس المقام لها؛ وإنما لجانب فراره من الشهرة.
ومن المستظرف أنه رحمه الله فاجأهم يومًا بحلوياتٍ يوزعها عليهم، قال الأخ: فسألته عن سبب ذلك فلم يجب وكأنه لم يسمع!
قال: فعلمت أنه لا يريد أن يتكلم، وبعد شهور علمنا أنه يوم أن وزَّع الحلويات كان قد انتهى من ختمة السند، لكنه حمد الله لذلك وأظهر الابتهاج دون أن يُخبر أقرب الناس إليه بذلك.
أما أمر العبادات فالناس إزاءه أمام حقيقتين: أنه صاحبُ تعبدٍ ومكثرٌ من ذلك، وأنهم لا يعلمون أي شيء عن ذلك، لكن كان حاله دالًّا على سريرته.
ومع علاقتي القوية بالشيخ لم أكن أعلم أنه قد انتهى من القراءات العشر، ولم أكن أعلم كذلك أنه كان يُدَرِّس كتاب: (كفاية الأخيار) في الفقه الشافعي للإمام الحصني في مجموعةٍ من طلبة العلم أحسبهم يقتربون من خمسة عشر، وكان قد أشرف على الانتهاء من تدريسه، واستشـ.ـهـ.ـد رحمه الله ولم يبق إلا درسٌ واحدٌ يختمون فيه الكتاب.
وتواصل معي بعض الشباب يطلبون كلمة لهؤلاء الذين التزموا مع الشيخ في هذا المجلس الفقهي، وبالفعل التقيت بهم وألقيت فيهم كلمة.
وشاء الله تعالى أن يكون استشهاده على يد القوة الصهيونية الخاصة قريبًا من المسجد الذي كان يصلي فيه ويتهجد، ليكون ارتيابه منها وتحقيقه معها رزقًا عظيمًا قد اختصَّه الله به، لينقذ البلد من اختراقٍ أمنيٍّ خطيرٍ يتلخص في دس قوات العدو أجهزة تجسس داخل شبكة الاتصالات الخاصة بالمقاومة.
ويكاد يُجمع المجاهدون أنَّ اكتشافه للقوة الصهيونية وارتيابه منها راجعٌ للبصيرة التي آتاه الله إليها، ثم لليقظة الأمنية التي كان يتمتع بها.
وبهذا الخاتمة انتقل الشيخ نور من الخفاء التام إلى الظهور التام.
لقد تدخل الطيران، وتحولت منطقة عَبَسَان لساحة حرب، وقام لأجله تصعيدٌ عسكري، واستقال وزير الدفاع الصهيوني ليبرمان، وسقطت حكومة العدو، وبدأت رحلة الضعف في الكيان حتى ما استطاعوا تشكيل حكومة إلا بعد عدة جولات.
لقد انتشر اسم هذا الشاب الخفي ابن السبعة والثلاثين عامًا في الآفاق، وسارت المسيرات باسمه، وانتشرت صوره على اللوحات في مفترقات الطرق، وتزينت بها حسابات الفيس، وكثر من يتبرع عنه ببئر مياه أو بعمل عمرة وما أشبه ذلك.
لقد ذكره المشايخ والخطباء وطلبة العلم والإعلاميون والمجاهدون والأصدقاء والأعداء، وانتشر ذكره في الناس وفي وسائل الإعلام على اختلافها وكثرتها بشكلٍ مبهرٍ حقًّا، وكلماتي لا توازي الحالة التي صار عليها يومئذٍ في الناس.
لقد بدأ الناس في السؤال عن هذا القائد العابد الزاهد المجاهد الخفي، بدؤوا يستذكرون مواقفه، ويفتشون عن مناقبه وأخباره.
لقد دخل الشهرة من أوسع أبوابها بعد أن اجتهد هو في غلق الأبواب كلها، لكنها كانت أشبه بالسيل الذي يجتمع ويتراكم حتى يُضخَّ دفعةً واحدة.
إن قصته ترجمةٌ حرفية لكلمة قالها الفضيل بن عياض رحمه الله نصُّها: «من أحب أن يذكر لم يذكر، ومن كره أن يذكر ذُكِر».
وما آتاه الله إياه مثالٌ حيٌّ لما كتبته في كتاب: «سراج الغرباء في منازل السعداء.. سياحةٌ ماتعةٌ في روائع فقه السنن» تحت عنوان: «كل سر تخفيه فالله مبديه» فقد قلت في مقدمة هذه السُّنَّة الإلهية:
إذا أراد العبدُ صدارة وظهورًا، وسعى في الناس لأن يكون مشهورًا.. فإنه يبقى خفيًا مغمورًا، أما من اجتهد في إخفاء حسناته، واتخذ كل وسيلة لئلا يراه أَحَد.. فإن الناس ستعلم أمره وكَأَنَّهُ فعله على جبل أُحُد، أو صدح به في المنابر، حتى علا في المآذن والمنائر.
رحم الله أخي نـ.ـورًا، وتقبله الله، وجعله للمتقين إمامًا.
د. محمد بن محمد الأسطل
تابع قناة جريدة الأمة الإلكترونية في واتساب
تابع قناة جريدة الأمة الإلكترونية في يوتيوب