بحوث ودراسات

د. محمد الأسطل يكتب: علمتني الهجرة النبوية

علمتني الهجرة النبوية أنَّ إقامة دولةٍ للإسلام من أعظم مفاتيح نشر الدين وحصول التمكين في الأرض

من هنا أخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يبحث ذلك في مكة، ويقول لقريش: أعطوني كلمةً واحدةً تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، مقررًا بذلك أنَّ الإسلامَ دعوةٌ ودولة.

ولما ضاقت به مكة وآذته ورفضت دعوته قصد الطائف، ولم يشتغل بدعوة الأتباع؛ وإنما بعرض الدولة على زعماء الطائف، لكنهم آذوه كما آذاه أهل مكة.

واستمر البحث عن جهةٍ تتبنى بناء الدولة على أرضها، وبعد أن عرض الفكرة على أزيد من خمس عشرة قبيلة فازت يثرب بشرف الاستضافة وحمل الرسالة، وبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم بيعةً أولى تربوية، ثم بيعةً ثانيةً سياسية، وهي بيعة العقبة الثانية، التي حصل فيها الاتفاق السياسي على تشكيل الدولة، وكانت في جوف أيام التشريق من شهر ذي الحجة من العام الثالث عشر من البعثة، وبعد نحو ثلاثة أسابيع بدأت هجرة الصحابة رضي الله عنهم إلى المدينة.

علمتني الهجرة النبوية أنَّ المبادئ مقدمةٌ على المصالح

فإنَّ قريشًا أبت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه واقفٌ بطريق مصالحها الآنية، من سلطة الجاه وبقاء السلطان على القبائل لموقعهم من المسجد الحرام، ولأنَّ دخولهم في الإسلام يعني احتمال تفكيك المنظومة الاقتصادية التي بنوها؛ لأنهم بعد أن عقدوا الاتفاق التجاري مع الروم واليمن المسمى بالإيلاف الذي أشارت إليه سورة قريش واصلوا الاتفاق مع القبائل على أن يكون لها نصيبٌ ماليٌّ من التجارة أو الشركة فيها، وتمثيلٌ سياسيٌّ عند الكعبة من خلال وضع صنم كل قبيلة الخاص حولها، مقابل تأمين القوافل القرشية وعدم التعرض لها.

والإسلام يعني احتمال تعطيل هذا الاتفاق، من هنا ذهبت قريش إلى أنَّ جمعَ الناس على الشرك خيرٌ من تفرقهم على الإسلام، قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].

أما الصحابة رضي الله عنهم فقد آثروا المبادئ على المصالح، وضحوا بأنفسهم وأموالهم وأرضهم وأهلهم في سبيل الله، وخرجوا عراةً من كل شيء إلا اللباس، فرفع الله ذكرهم، وأعلى قدرهم، وجعل لهم الجاه والسلطان والدولة، وبقيت مآثرهم تتلى على المنابر حتى يوم الناس هذا.

والغالبُ أن يبتلى الشخصُ المسلمُ بتعارض المبادئ مع المصالح؛ ليُختبَرَ هل يُؤثِر دينه على دنياه أو دنياه على دينه؟ وهل يكون حق ربه مقدمًا عنده على حظ نفسه أم لا؟.

علمتني الهجرة النبوية أنَّ المرء قد يعاديه بنو قومه وبلده

وعندئذٍ تغدو الهجرة من الديار حلًّا كريمًا مع ما يقترن بذلك من الضيق والبلاء واللأواء والتكاليف، فلا ينبغي للرجل أن يذل نفسه إن وصلت حياته ودعوته إلى طريقٍ مسدود.

وفي الهجرة سلوى للعلماء والدعاة وأصحاب المنهج الحق اليوم الذين يفتك بهم الطغيان في بلادهم، وقد تفرض الحكمة عليهم قرار الهجرة لبلدٍ يقدرون فيه على الجهر بالحق ومواصلة الطريق، وساعتئذٍ لا ينبغي التردد طويلًا إن وجدوا المكان الآمن المتاح، وما أقل الأماكن اليوم!.

أَصْغِ إلى نداء ربك حين يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56].

ومتع عينك ببشارة القرآن: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100].

ورسالةُ الآية أنَّ من كان له مشروعٌ أو كان على ثغرٍ وحفت به المخاطر فلا ينبغي أن يستسلم للعجز والقهر، بل من الفقه أن يكون جريئًا في إجراء تحولات محورية في حياته متى لاحت قرائن الحكمة في ذلك، فإنَّ أرض الله واسعة، وإلا.. فقد تملي الحكمة على الشخص أن يثبت في موقعه، وربما كان خروجه في بعض الأحيان بمنزلة التولي يوم الزحف.

علمتني الهجرة النبوية أنَّ منهجَ الطغيان واحد

فإنَّ قريشًا لما ضاقت ذرعًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعرفت عزمه على الهجرة قررت قتله، ولما هاجر ونجاه الله تعالى نزل عليه قول الله تعالى في سورة القصص: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } [القصص: 85].

وسورةُ القصصِ استدعت خبر نبي قبله تعرض لخطر القتل، وهو موسى عليه السلام، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 20، 21].

واستمر السياق يصور الأحداث حتى جاء قول الله: {قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [القصص: 25]، بما يشي بنجاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

فمسيرة الدعاة والمجاهدين وأصحاب الحق تبدأ بالعناء، ويتوسطها العداء، وتنتهي بالنصر والتمكين والسناء والهناء بفضل الله تعالى.

علمتني الهجرة النبوية أنَّ الدول لا تبنى بالحق فحسب؛ ولكن به وبالقوة

ولهذا كان من عمل النبيِّ صلى الله عليه وسلم لما وصل المدينة أنه بنى الجيش وأقام فرقًا أمنية تستطلع النقاط المركزية في الجزيرة العربية، خاصة طرق القوافل القرشية التجارية.

وذلك أنَّ مصائر الأمم إنما ترسم بحسب أحوالها في القوة، ولهذا كان مفتاح فهم تاريخ أي أمة يبدأ من الإلمام بمعاركها، ودعوةٌ أو دولةٌ بلا شوكةٍ وقوة تبقى مهيضة الجناح وإن كان أفرادها بالملايين.

علمتني الهجرة النبوية أننا أمة عمل

 ولهذا لم يؤرخ الصحابة رضي الله عنهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ولا بوفاته؛ ولكن بهجرته، مع فرط حبهم له، فالتحولات على صعيد الرسالة والأهداف هي التي تتطلب مزيد العناية والنظر، وكأن هذا الحدث هو الذي يُذَكِّرُ سنويًّا بالتأكد من المسير والمسار، وفحص المبادئ والأفكار، ورسم الخطط وتحديد الوسائل والأعمال.

 والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه لما هاجر بنى مسجدًا في قباء لما وصلها، ومسجدًا في المدينة لما دخلها، فبنى لله بيتين قبل أن يبني بيتًا لنفسه، والمغترب يدرك قيمة هذا الصنيع الذي يعد معجزةً حقيقيةً مكتملة الأركان على الصعيد النفسي للإنسان.

علمتني الهجرة النبوية تركَ الأمجاد الشخصية

 فإنَّ الواحد منا لو تعرض لخطر الاغتيال والقتل ونجاه الله تعالى ما أحسب أنه يمضي عليه الشهر والشهران والثلاثة إلا وهو يتحدث عن ذلك في كل مناسبةٍ تلوح.

 أما نبينا صلى الله عليه وسلم الذي مر بمرحلةٍ خطيرةٍ عنوانها اغتيالُه، حتى رصدت قريش الجوائز الضخمة لمن قدر على الوصول إليه.. رأيناه عندما وصل المدينة لا يحدث الناس عما جرى له ولو بحرفٍ واحد، بل كان أول ما تكلم به أن أشار لسياسته في التعامل مع مشكلات المجتمع الجديد، مما يعني أنه بدأ بالحديث عن أحوالهم هم لا عن حاله هو!.

 أخرج الترمذي وابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ”.

 وعالج بالأمر الأول “أفشوا السلام” المعاركَ الضارية بين الأوس والخزرج وتفتت المكون الاجتماعي بالمدينة، وبالأمر الثاني “وأطعموا الطعام” حاجةَ المهاجرين الذين وصلوا المدينة وسائر ذوي الحاجة في المدينة، وبالأمر الثالث “وصلوا بالليل والناس نيام” الحظَّ التربوي الذي عليهم أن يتلقوه؛ فإن قيام الليل هو أصل العملية التربوية، وأهم جرعة في بناء جيل التأسيس وكذلك جيل التحرير.

 علمتني الهجرة النبوية أن نسف النظام الفاسد أولى من الترقيع فيه

 وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما قصد المدينة لم يدخلها مباشرة، بل مكث في قباء بضعة أيام، وقيل أكثر من ذلك، ورواية الزهري في الصحيح أنه مكث بضع عشرة ليلة، وأكثر ما قيل إنه مكث اثنين وعشرين يومًا.

 ولو اعتمدنا أنه وصل قباء يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الجمعة فهذا يعني أنه مكث في قباء أربعة أيام أو خمسة، مع أن الهدف هو المدينة، ومرد ذلك أن المدينة اجتمعت على ابن سلول، ولا بد في تولي مقاليد الحكم في المدينة من استلام، فرُفِعَ اتفاقُهم على ابن سلول، وبدأت مراسم تسلم النبي صلى الله عليه وسلم، وإظهار الانقياد لأمره.

 ولهذا بدأ في قباء بالالتقاء بقادة القبائل، والتعرف على مكونات المجتمع، ولما تم ذلك دخل المدينة حاكمًا لا داعيةً فحسب، ونسف النظام القائم، وقرر نظامًا جديدًا يضيق عن بيانه المقام، ولا يُعرف جيدًا إلا بمعرفة أنظمة الناس في الجاهلية.

 ومن ذلك أنه بنى المسجد ليكون بديلًا عن دار الندوة، وقصم ما يُنكر من قانون الجوار بنظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وألغى النظام السياسي المتبع في العرب القائم على سلطة القبيلة بالوثيقة عبر بنودٍ تفصيليةٍ تعرف من كتب السيرة.

 ولهذا من المغالطات أن أول عمل قام به هو بناء المسجد، والصواب هو تقرير معالم النظام السياسي الجديد ونسف النظام القديم وتسلم الحكم، وبعد ذلك أول عمل قام به هو بناء المسجد.

 ومن مشكلة الجماعات الإسلامية التي وصلت إلى الحكم في هذه الحقبة أن أكثرها لا يزال يمشي على النظام المتبع في نظام الدولة العلمانية الحديثة، ثم تبدأ رحلة التعايش معه.

 ولن تستقل دولةٌ إسلاميةٌ من كل وجه إلا بتحقيق إنجازات ثلاثة فارقة: إزالة الدولة العميقة، ونسف النظام القائم، والتحرر من التبعية الدولية، وهذا الأخير هو الميدان الأكبر للمعركة الذي قد يستغرق سنواتٍ بل عقودًا، ومن سار على الطريق وصل.

 علمتني الهجرة النبوية أن الدولة تقام في النفوس أولًا

 وذلك أننا لا نلحظ أي مظهر ضعف للأداء النبوي لما دخل المدينة، فهو يعرف كيف تبنى الدول وكيف تدار.

 وقد تتبعت أعمدة بناء الدول السبعة في المشهد النبوي وهي العلم والسياسة والأمن والاقتصاد والجيش وبناء المجتمع والإعلام، فوجدت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اشتغل بإرسائها جميعًا على أرقى ما يكون من الكفاءة والفاعلية والنجاح.

 وقد أعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم إعدادًا متكاملًا قبل أن يبعثه نبيًّا، والدرس المستفاد أن يخطط المرء لمشاريعه جيدًا، وأن يعد نفسه لعواصف الأحداث جيدًا، وألا يستعجل الدخول قبل النظر والتدبير، سواء في أمر دينه أو دنياه، وإذا كان هذا في حياة الأفراد مهمًّا.. فهو حياة الجماعات والدول أهم.

 علمتني الهجرة النبوية أنَّ صاحب الحق منتصرٌ ولو بعد حين

 فليس بين مشهد الخروج من مكة ودخولها بالفتح إلا بضع سنوات، مع ما تخلل ذلك من اجتماع الأحزاب وتكرر مداهمة المدينة ومكر الليل والنهار.

وما صنائع طالبان اليوم بالولايات المتحدة وعملائها إلا ترجمةٌ لا غبش فيها لدرس الهجرة، صدق الله إذ يقول في ثنايا قصة يوسف عليه السلام: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

د. محمد الأسطل

من علماء غزة وفقهائها

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى