مقالات

د. محمد الأسطل يكتب: علمني يوم عاشوراء

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه الكريم، أما بعد:

فإنَّ يوم عاشوراء أحد الأيام المركزية في تاريخ البشرية، فيه نجى الله موسى ومن معه من كيد فرعون وجنده، وفيه آياتٌ بيناتٌ وعبرٌ وعظاتٌ لا ينبغي أن تفوت، وهذه خمسٌ منها:

علمني يوم عاشوراء أنَّ فضل الله كبير وأنَّ رحمته واسعة

 فإنَّ مجرد صوم الإنسان لساعاتٍ معدوداتٍ يكفِّرُ الله به ذنوب عامٍ كاملٍ ليله ونهاره سره وعلانيته!.

 ما منا وإلا وقد أخطأ وزل وتجرَّأ على محارم ربه ولو على سبيل الضعف، وربما تورَّط بتعريض نفسه لمقت الله وغضبه وسخطه، ثم إنَّ الله تعالى الرحمن الرحيم يرضى من العبد أن يصوم يومًا واحدًا حتى يُبيِّض بهذا اليوم الواحد صحيفته ويغفر ذنبه.

 لا تفسير لذلك إلا أن الله ذو رحمةٍ واسعة وحلمٍ مطلق وفضلٍ مطلق، وأنه لا تضره سيئات العباد كما لا تنفعه حسناتهم، فاللهم لك الحمد كله، ولك الشكر كله، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

وعلى هذا؛ فمتى رأيت جيوش الهموم والأحزان قد نزلت بك، ورأيت عسكر الأزمات والآلام قد أحاطت بك.. فاعلم أنَّه لا أحن عليك من الله، ولا أرأف بك من الله، فافرش سجادتك واشْكُ أمرك لربك، وافتقر إليه يُغْنِك، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].

علمني يوم عاشوراء أنَّ المدار على العقيدة لا الوطنية

 فإنَّ الله نصر نبيه موسى عليه السلام وقومه على فرعون وآله، وبنو إسرائيل ليسوا مصريين وفرعون وجنده هم جيشُ مصر وأبناء البلد.

وبعد الإنجاء ونزول المنهج أمر موسى عليه السلام قومه بدخول الأرض المقدسة وقتال الكافرين، فقالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22].

وقالوا: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].

فعندئذٍ حرَّم الله عليهم دخولها أربعين سنة يتيهون في الأرض، ثم جاء الفتح على يد يوشع بن نون، ولما تخلوا عن منهج الله تسلط عليهم الجبابرة من جديد، ثم كان الفتح الثاني على يد طالوت كما فصلت ذلك سورةُ البقرة.

 وصورة المشهد: معركةٌ بين المسلمين والكافرين، والمسلمون هنا هم بنو إسرائيل والكفار هم أهل فلسطين، وهم المقصودون في قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145]، وأخبرنا القرآن أن داود الإسرائيلي قتل جالوت الفلسطيني.

 ثم تبدل موضعُ كلِّ فريق، فكفر بنو إسرائيل وحرفوا التوراة وقتلوا الأنبياء، وتولى الجزء الأول من سورة البقرة بيان فضائحهم والأسباب التي نزعت منهم الإمامة لتُسلَّم لرجال الأمة المحمدية، وصارت المعركة في زماننا بين المسلمين والكافرين، والمسلمون هنا هم أهل فلسطين، والكفار هم اليهود وهم بعض بني إسرائيل على تفصيلٍ يطول.

والمقصود: أنَّ قيمةَ المؤمن بعقيدته لا بسكنه في الأرض المقدسة؛ فإنَّ الأرض المقدسة لا تقدس أصحابها؛ وإنما يُقدِّسهم العمل الصالح.

علمني يوم عاشوراء أن الله يكرم الصالحين ويحفظ مآثرهم، ويذل الكافرين ويسجل جرائمهم

 فهل خطر ببال موسى ومن معه من المؤمنين أنَّ هذا اليوم سيصبح موضع احتفاء الناس في كل يوم، يصومون فيه لله شكرًا أن نجَّى الله إخوانهم من فرعون وآله!.

وهل خطر ببال فرعون نفسه أنه سيكون رمز الكفر والإجرام والظلم والطغيان على مدار الزمان وتباعد المكان!.

وهل خطر ببال أبي جهل الذي يرى نفسه أنه سيد الوادي أنه سيكون فرعون هذه الأمة ومضرب المثل في شدة الكفر والظلم والبغي!.

وهل خطر ببال أبي لهب أن عداءه لابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم سيجعل ذمه والتهكم به قرآنًا يتعبد الناس بتلاوته حتى يرث الله الأرض ومن عليها!.

لقد بغى إخوة يوسف عليه وأردوا نفيه، فرفع الله ذكره وسجل جريمتهم في القرآن، وما زالت تتلى حتى يوم الناس هذا وستبقى تتردد في الأرجاء حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

 إنَّ الأمر مرعبٌ وربي، وهذا التوثيق في الدنيا فكيف إذا انقلب الناس ليومٍ تبلى فيه السرائر، وعندئذٍ من عمل صالحًا ففي انتظاره مشهدُ تكريمٍ يوم القيامة، ومن عادى دين الله وأولياء الله فقي انتظاره مشهد ذلٍّ وهوانٍ وصغارٍ وتبكيت وتقريع يوم القيامة.

علمني يوم عاشوراء أننا أمةٌ مستقلةٌ بنفسها متميزةٌ عن غيرها

 ولهذا لما قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة صام عاشوراء ولم يخالف في ذلك اليهود، قال الحافظ ابن حجر: وذلك أنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان، فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب، وكان هذا في آخر الأمر.

واستقر الأمر على ذلك، حتى صارت المخالفة أصلًا من الأصول الشرعية بحيث تقصد وتطلب.

علمني يوم عاشوراء أن الحق منتصرٌ ولو ضعف أهله، وأن الباطل زاهقٌ ولو تسلط أهله.

 ومن هنا نرى أن الله أنجى موسى ومن معه على ضعفهم، وأهلك فرعون ومن معه على قوتهم، وبهذا الحدث التاريخي ختم إهلاك الأقوام الكافرة بالمعجزات نتيجة الكفر وولد الجهاد في البشرية.

 ومن هذا ما نراه اليوم من توفيق الله للمجاهدين في بلدنا غزة، وما يجري هذه الأيام من علو نجم طالبان بعد أن نصرها الله على الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد غزت بريطانيا أفغانستان ثم هربت، ثم غزاها الاتحاد السوفيتي ثم هرب، ثم غزتها الولايات المتحدة ثم هربت!.

حقًّا إنَّ العاقبة للمتقين، والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 وكتبه: د. محمد بن محمد الأسطل

فجر السبت الثاني عشر من شهر الله المحرم لعام 1443 هـ، الموافق الحادي والعشرين من شهر أغسطس لعام 2021م.

د. محمد الأسطل
من علماء غزة وفقهائها